الغيبية والطوباوية في (مشروع برنامج حزب الإرادة الشعبية)
من المنطقي تثمين عملية طرح «حزب الإرادة الشعبية» مشروع برنامجه للنقاش العام، ونوجه تحية إلى أعضاء هذا الحزب ونثمن جهودهم وتطلعاتهم الوطنية الديمقراطية لبناء وطن حر سيد تسوده العدالة الاجتماعية، وتكافؤ الفرص بعيداً عن كل أشكال الظلم والاستغلال...
• لما كانت الأحزاب السياسية من البنى الضرورية للمجتمعات المتحضرة يترك وجودها حسب فعاليتها أثره على الكثيرين من أبناء المجتمع، فإن مناقشة برامج هذه الأحزاب تقتضي النظرة الموضوعية بعيداً عن العاطفة والمحاباة...
• إذا أخذنا تعريف القيمين على هذا الحزب بأنه: «ثمرة للتاريخ النضالي لآلاف الشيوعيين السوريين»، وتمعنا في «المقدمة» و»الرؤية» التي تشغل حجر الزاوية في البنية الفكرية للحزب، لوجدنا أن هذه «الثمرة» لم تستفد من ذلك «التاريخ النضالي» ولم تتطور فكرياً، بل بقيت تكرر شعارات نسجت على هامش الفكر الماركسي في القرن العشرين، بعيداً عن المنهج الديالكتيكي، وعن اقتران الفكر والوعي الاجتماعي بالواقع الموضوعي المتغير، شعارات ومصطلحات شبه الجامدة كمصطلح المركزية الديمقراطية، و «الماركسية اللينينية كمرجعية فكرية» التي يذكر طرحها بالفكر الغيبي، علماً بأن لينين نفسه كان يؤكد دائماً على ضرورة التعرف إلى مصادر الماركسية الثلاثة (الاقتصاد السياسي البريطاني، والاشتراكية الفرنسية، والفلسفة الألمانية، مع التأكيد على أن ماركس تلميذ هيغل،) فالمرجعية الفكرية للإنسان العصري المتحضر هي مجمل ما توصل إليه الفكر الإنساني، بما في ذلك التجربة والإرث الثقافي والحضاري للشعوب العربية والإسلامية، وليس إحدى خلاصات ذلك الإرث وتلك التجربة وحدها...
• لا يخلو مشروع البرنامج في فقرتي «المقدمة» والرؤية» من الجمل الشعاراتية الفضفاضة التي تصل إلى استنتاجات طوباوية لا تغني الفكر، بل تخدره وتثير الاستغراب؛ كالدعوة إلى «العمل بعقلية الانتصار في عصر الانتصارات. انتصارات قطب الشعوب ضد النظام الرأسمالي العالمي... الانتصارات التي بدأت وأجملها هي تلك التي لم تأت بعد»؟؟!!! ولا بد من التنويه إلى أن هذه «العقلية» الجامحة، التي تبتعد عن معالجة التناقضات الداخلية في كل مجتمع، وتهرب إلى تخيل انتصارات كونية وهمية بعيدة كل البعد عن المنهج الماركسي في التحليل، الذي عبر لينين عنه خير تعبير آخذاً من تحليل ماركس لرأس المال، عندما قال: «إن ماركس يحلل أولاً... أبسط الأشياء وآلفها وأكثرها تواتراً، الأشياء العادية الأشياء الأساسية، ولا أكثر، الأشياء التي تصادف مليارات المرات... إن تتمة هذا العرض تبين لنا تطور (ونمو، وحركة) هذه التناقضات والمجتمع الرأسمالي في مجموع وشتى أقسامه منذ بدايته وحتى نهايته». (انظر: لينين ـ حول الدياكتيك ـ المختارات.دار التقدم ـ موسكوـ الطبعة العربية ـ المجلد4ـ ص469) وبالتالي كان من المفيد لو انطلاق مشروع البرنامج من أبسط الأشياء من تحليل التناقضات الداخلية في المجتمع لمعالجة تلك التناقضات لا القفز فوقها وتوهم الانتصارات الكونية...
• يلاحظ في مشروع البرنامج تكرار المصطلحات غير الدقيقة كالحديث عن «الأزمة النهائية للنظام الرأسمالي العالمي»، وتجاهل حقيقة أن أهم دول (البركس) أعضاء في منظمة التجارة العالمية، أي أنها جزء من النظام الرأسمالي العالمي، وتفصل «الرؤية» شعوب «البركس» عن بنية مجتمعاتهم الرأسمالية... كما أن اعتماد مصطلح الشرق العظيم في مشروع البرنامج غير دقيق وغير موفق...
• تتجاهل «الرؤية» الأحداث الجسام التي تحصل في المنطقة العربية التي تعبر عن الأزمة العالمية المتجلية في التناقض بين صيغة الحكم المهيمنة حالياً في العالم وبين متطلبات العصر، والتي تدل على أن مركز الحركة الثورية العالمية انتقل في نهاية العقد الأول من القرن الواحد والعشرين إلى منطقتنا...
فما يجري في منطقتنا من أحداث جسام دشنها الشعب التونسي، وتابعها الشعب المصري في 25 كانون الثاني (يناير) من عام 2011 وامتدت إلى دول أخرى في المنطقة تجسد محاولة لولادة جديدة للتاريخ، جعلت من مصر مركزاً لثورة لا تقل أهمية عن الثورة الفرنسية، ولا عن الثورة البلشفية اللتين كان لهما بعد وتأثير عالمي...
فكما كانت الثورة الفرنسية تعبيراً عن حدة التناقضات والخلل بين بنية الحكم الملكي الإقطاعي السائدة في دول العالم، وبين متطلبات تطور المجتمع الفرنسي نحو الرأسمالية، وتعبيراً عن تناقض في بنية وصيغة المنظومة السياسية للدولة على الصعيد العالمي، وضرورة ابتكار صيغة جديدة للحكم على مستوى دول العالم تنسجم مع متطلبات تطور المجتمعات الصناعية في القرن التاسع عشر؛ وكما عبرت الثورة البلشفية في روسيا عن التناقضات بين الحكم القيصري المطلق ومتطلبات انتقال روسيا إلى البنية الرأسمالية، وعن أزمة دولية تجلت في بحث شعوب العالم عن صيغة جديدة للحكم تنسجم مع متطلبات تطور المجتمعات نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية في القرن العشرين؛ فإن ملحمة الشعوب العربية تعبر عن أمور وحالة لها بعد محلي وعالمي؛ فهي تعبر عن حاجة الشعوب العربية لصيغة حكم جديدة تعالج التناقضات الكامنة في المجتمعات العربية، كما أنها تعبر في الوقت نفسه عن أزمة صيغتي الحكم الرئيسيتين اللتين طغتا على معظم دول العالم في القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين، ألا وهما: صيغة الحكم الشمولي، التي عرفت بالديمقراطية الشعبية، وصيغة الحكم الديمقراطي الليبرالي في الدول الغربية، وحاجة شعوب العالم إلى تطوير صيغة الحكم الطاغية حالياً في كثير من دول العالم، لتنسجم مع متطلبات عصر انهيار نماذج الحكم الشمولي، وعصر المعلوماتية في القرن الواحد والعشرين... وتضع هذه التطورات الشعوب العربية أمام تحديات كبيرة ستترك آثارها على مستقبل ومصير هذه الشعوب والدول، وأساس هذه التحديات هو: إبداع وابتكار صيغة حكم جديدة تستوعب تجارب الحكم الديمقراطي المعروفة وتعالج مشاكلها، وأزمتها في الوقت عينه، تلك الأزمة التي تتجسد في ابتعاد السلطات الديمقراطية الليبرالية عن العدالة الاجتماعية، والإفراط فيما سلطة حزب الأغلبية... صيغة حكم تعبر عن تطلعات الشعب، وتفتح إمكانيات التطور والنمو، ومعالجة التناقضات الاجتماعية، في إطار مشروع نهضوي متجدد تستفيد منه مختلف شعوب العالم...
إنما، وعند الحديث عن المشروع النهضوي، ومحاولة شعوب المنطقة إبداع صيغة حكم جديدة تجعلهم فاعلين في التاريخ العالمي، من الضروري عدم تجاهل حقيقة وجود مشاريع أخرى في هذه المنطقة، تعادي المشروع النهضوي في الدول العربية، تعمل ويعمل دعاتها ومناصروها جاهدين لإخراج العرب من التاريخ، ويسخرون كل الإمكانيات المتاحة لهم، ويبذلون كافة الجهود لعدم السماح للعرب، ليس فقط في أن يحققوا مشروعهم النهضوي، أو أن يكون لهم دور عالمي، بل منعهم من حكم نفسهم بأنفسهم... وبالتالي علينا أن نتوقع قيام قوى ومراكز كثيرة بالعمل الدؤوب لإجهاض أي مشروع نهضوي، أو ربيع عربي، والعمل على تشويه سمعة العرب... لتحويل المشهد في العالم العربي، من ربيع يحلم العرب في الوصول إليه، إلى مشهد عنف دموي، وتصوير العرب والمسلمين بكافة طوائفهم ومذاهبهم على أنهم دمويون ومتوحشون...
إن إغفال برنامج أي حزب لمعالجة هذه المسألة يعبر عن هروب من البحث في كيفية معالجة التناقضات الداخلية في المجتمع، ويوحي وكأن الحزب لا يرى الأسباب الداخلية للأزمة، بل يعزوها لأسباب خارجية وغيبية... ويتوصل إلى استنتاجات غير موضوعية كالدعوة إلى «موقف معاد للغرب»، و»قطع العلاقات مع الغرب»... كما يفيض مشروع البرنامج بالسعي إلى كسب عداوة «الإسلام السياسي» بما فيه المعتدل، ومعاداة الليبرالية بشكل عام (وليس جانبها المتوحش) متهماً إياها بأنها «تدمر وتفسد الجزء المدني من جهاز الدولة، وترفع التوتر الاجتماعي»، متغافلاً عن دورها الموضوعي في التطور الاجتماعي والاقتصادي، وعن أن الخلل ليس في دورها بقدر ما هو في البنية السياسية التي تحمي الجانب المشوه الفاسد المتوحش في الليبرالية، وتلغي كل إمكانيات حماية جانبها الوطني الضروري للتطور الاقتصادي والإمكانيات التي تتيح حماية المنتجين من الاستغلال وتحقيق العدالة الاجتماعية...
• يتضمن مشروع البرنامج مبادئ وأسساً وأفكاراً هامة وموضوعية في «الجانب الاقتصادي ـ الاجتماعي» والدعوة إلى تطوير الإنتاج الحقيقي في الاقتصاد السوري، ووضع الدولة اليد على الشركات ذات الريعية العالية، وربط الأجور بالأسعار وتحقيق العدالة الاجتماعية، مع التنويه إلى إغفاله مسألة السياحة، وعدم موضوعية الدعوة إلى «تصفير» تكاليف الشرائح الدنيا من استهلاك المياه والكهرباء لما يسبب ذلك من هدر وسوء استثمار...
• والمشروع موفق في ربطه المنطقي بين النموذج الاقتصادي الفعال في عدالته ونموه لمعالجة المسائل الاجتماعية، وفي دعوته في «الجانب الديمقراطي» إلى «نظام رئاسي برلماني» مع التأكيد على ضرورة أن يتضمن البرنامج الدعوة إلى إلغاء جميع القوانين التي تحد من الحريات وتحمي القمع والفساد، ومعالجة قضايا الإخوة الأكراد كي ينالوا حقوقهم كاملة في سوريه الموحدة... كما يحتاج «الجانب الثقافي» في المشروع إلى تطوير مع الابتعاد عن النظرة العدائية لليبرالية، وللحداثة، والتأكيد على أهمية وضرورة نشر وسيادة ثقافة المواطنة لمعالجة أمراض التشرذم والتخلف والطائفية، وإعادة بناء الإنسان الحر في إطار دولة مدنية تصون حقوق الإنسان والمرأة والشباب، وذات بنية سياسية ديمقراطية تعددية تداولية تصون حرية وكرامة الإنسان.
طرطوس 23/4/2014