إفتتاحية قاسيون 585: السيادة الوطنية في الحوار القادم
تتقدم يوماً بعد آخر، وعبر الصعوبات المختلفة، قضية الحوار والحل السياسي، وتتوالى تباعاً مبادرات الأطراف المختلفة لتكرس الحوار باعتباره ضرورة لا مفر منها.
وإن كان المتشددون قد أرغموا إرغاماً على القبول بالحوار وإن لفظاً، فإن ذلك وفي نهاية المطاف - سواء وعوا ذلك أم لم يعوه - يعكس رضوخهم لبداية توافق يفرض على المحور الأمريكي- الغربي قواعد جديدة للصراع تستبعد العنف والتدخل الخارجي كأدوات، وتترك الباب واسعاً أمام شكل تجسيد هذه الأدوات على أرض الواقع وفقاً لتطور ميزان القوى ذاته، الدولي والداخلي. وإذا كان ميزان القوى الدولي العام قد أخذ ميلاً ثابتاً نحو تقدم تدريجي لمحور البريكس يتزامن مع تراجع تدريجي للمحور الأمريكي الغربي، فإن تعويل الجميع، والداخل ضمناً، سيرتكز على ميزان القوى الداخلي.. ولما كان العنف والتدخل الخارجي مفتاح عمل أمريكا، ليس في سورية فحسب، بل وفي المنطقة عموماً فإن زيادة وزن «الخارج»، أي وزنها، وترسيخ العنف سيبقى أداتها الأساس التي ستخفيها تحت أشكال عدة أهمها:
تقديم الائتلاف ومجلس اسطنبول كممثل شرعي ولاحقاً وحيد للسوريين وضمناً المسلحين السوريين، سواء بالإعلان الصريح أو بالتهديد الضمني، او على الأقل زيادة وزنه النوعي إلى الحد الأقصى.
الدخول من باب تطمين «الأقليات» وحمايتها لتكريس «ديموقراطية» توافقية طائفية على الشكل اللبناني أو العراقي.
تشغيل الجزء التكفيري من المسلحين والمرتبط بها، لضمان نصب فزاعة «حماية الأقليات».
عقد صفقات إعادة التحاصص بين فاسدي النظام وبين «المعارضة» الخاصة بأمريكا بما يكرس بقاء بنية النظام المتهتكة السابقة مع موقف إقليمي جديد..
إن هذه الأدوات هي ما يمكن إدراكه وضوحاً، والشياطين المختفية في التفاصيل أعظم.. وإذا فهمنا أن الواقع الذي يفرضه التوازن الدولي الصفري يعني ضمناً أن لأعدائنا وزناً ما على طاولة الحوار، فإن كون هذا التوازن صفرياً يقدم فرصة كبرى في تقويض وزن العدو على طاولة الحوار وصولاً إلى إمكانية تصفيره شرط امتلاك الجرأة السياسية والوعي الوطني الكافي...
إن مفهوم السيادة الوطنية ليس مفهوماً حقوقياً، ولعل أقل جوانبه أهمية هو جانبه الحقوقي، في حين أن السيادة الوطنية هي ميزان قوى حقيقي على الأرض وهي مقومات ومعطيات واقعية، ولذلك فإنه ليس مسموحاً على الإطلاق الإكتفاء بإلقاء الشعارات حول السيادة الوطنية والحل السياسي الداخلي، ولكن يجب الاستفادة من الفترة القليلة التي تفصلنا عن بدء الحوار في تعزيز وزن أصحاب المشروع التغييري الوطني، وهذا أمر يستلزم خروجاً عن التقاليد الرثة في العمل السياسي، تقاليد المادة الثامنة القديمة، ويحتاج فوق ذلك إلى عمل نوعي يتعامل مع السوريين باعتبارهم مقرراً وقوةً وليس باعتبارهم جماهير تلتحق بالقادة. ينبغي لذلك استثمار الوقت القليل المتبقي قبل بدء الحوار بكسر الأدوات الأمريكية المفترضة من خلال:
العمل الجاد على استمالة المسلحين السوريين، والوصول إلى توافقات أولية معهم، وعزلهم عن غير السوريين ومن بحكمهم..
كسب البيئة الحاضنة للمعارضة عموماً، وهي واسعة، إلى صف التغيير الوطني الداخلي، بإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة ميليشيات الفساد التي لا تعجز الدولة عن تفتيتها حين تمتلك الإرادة السياسية لفعل ذلك..
فتح الحوارات التحضيرية العلنية والمتلفزة بعيداً عن فلكلور «أخي المواطن والسيد المسؤول»
رفع العقوبات ضد ناهبي قوت الشعب إلى حدها الأقصى..
المسارعة بتأمين عودة المهجرين السوريين، وعدم السماح بتحويلهم إلى ورقة ضغط..
فتح الطريق أمام الحركة الشعبية السلمية الواسعة وضمناً الجزء الذي رفع شعارات من قبيل «إسقاط النظام»، لتتمثل في الحوار وتشارك بشكل وطني في بناء النظام الجديد..
إن القوى الفاسدة في النظام جنباً إلى جنب مع أشباهها في الطرف المقابل لا تشكل اليوم معيقاً للتقدم فحسب، ولكنها تبقي السيادة الوطنية موقع تجاذب دولي، والفاسدون هؤلاء أنفسهم هم حجر الزاوية في الصفقات المختلفة التي تمر عبر إحراق سورية من الداخل، وتسليط النار عليهم اليوم هو خطوة لا بديل عنها في حماية وتعزيز السيادة الوطنية..