الافتتاحية: ما وراء الاستعصاء الليبي
تمر معظم التحليلات السياسية المتابعة لما يحدث في ليبيا بشكل عابر وسريع على ما يمكن اعتباره موضوعياً منعطفاً حاسماً في تاريخ العلاقة بين سلطة القذافي والشعب الليبي، ونقصد هنا مجموعة الصفقات التي أبرمها « الأخ القائد» أو «زعيم ثورة الفاتح» مع الأنظمة الإمبريالية بُعيد احتلال العراق، أملاً في إطالة عمر سلطته التي خشي عليها من أن يصيبها ما أصاب نظام صدام حسين،
وهذه الصفقات شملت بشكل أساسي كما هو معروف، تحمُّل مسؤولية تفجير طائرة لوكربي والتعويض على ضحاياه والتعهّد بعدم رعاية ودعم «الإرهاب»، وإعادة النظر بمفهوم الصراع العربي– الإسرائيلي التي أنتجت سريعاً فكرة «إسراطين»، وإسقاط حق ليبيا والليبيين في جريمة حقن المئات من أطفالهم بفيروس الإيدز، والأهم طأطأة الرأس أمام شركات النفط العملاقة وتقديم كل ما يلزم لها من تسهيلات لاستثمار، أو بالأحرى، لسرقة النفط الليبي شراكةً مع الأسرة الحاكمة، واتباع سياسات اقتصادية وأمنية أكثر انفتاحاً وتعاوناً مع الغرب الاستعماري عموماً، ومع الإمبريالية الأمريكية بشكل خاص.
لقد تحمّل الشعب الليبي طوال أكثر من أربعة عقود غياب أي مَعلم لوجود نظام حقيقي له بُناه وهياكله ومؤسساته، وتحمّل الاستبداد والفوضى والمزاجية والفساد وانعدام الحياة السياسية بأحزابها وحرياتها والتخلف وهشاشة القانون والإعلام والإدارات والخدمات واحتكار جميع السلطات في قبضة واحدة، وصمد في وجه الحصار الطويل والتهديد المستمر لاستقلال بلاده... مقابل ما كان يتم تصويره وادعاؤه على أنه مواقف ثابتة ضد المشاريع الاستعمارية الأوربية والأمريكية والصهيونية.. ولكن ما إن سقط هذا القناع برفع الحصار الخارجي عن ليبيا السلطة، حتى اختلفت المعايير كلها، وبدأت المعادلات الشعبية بالتغير الضمني بانتظار فرصة لتعبر عن ذاتها..
ولم ينتبه القذافي في غمرة سعادته بنجاة سلطانه مؤقتاً من السقوط وفق النموذج العراقي برضوخه لكل الإملاءات الخارجية، أن كل ما كان يستر عوراته أمام شعبه قد سقط مع سقوط الحصار الخارجي، وما إن هبت رياح الانتفاضات حتى وجد شعبه ينقض عليه مطالباً بحزمة واسعة جداً من الحقوق البسيطة والأساسية التي ظل محروماً منها طوال عقود.. وليجد من عقد الصفقات السخية معهم يعاملونه كحذاء مهترئ سيخلعونه في أية لحظة، وتحديداً في التوقيت الذي سيلي توافقاتهم التي لم تنضج بعد، حول اقتسام «الكعكة» الليبية، وهو ما يفسّر جزءاً من الاستعصاء القائم حتى الآن في حسم الصراع داخل ليبيا..
والحقيقة أن انتفاضة الشعب الليبي ما لبثت أن اصطدمت بعوائق لم تواجه الانتفاضتين التونسية والمصرية اللتين سبقتاها على الرغم من عمقها وقوتها، فعدا عن تشبث الحاكم بسلطانه وهو المتكرر والمتشابه في كل الانتفاضات القديمة والمعاصرة، برز في ليبيا الأثر السلبي الهائل للتغييب التاريخي لكل أشكال ومقومات الدولة الحديثة من مؤسسات وهياكل إدارية مدنية وعسكرية، وغلبة البعد القبلي على البعدين السياسي والوطني، والدور الكبير جداً للعامل الخارجي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وإعلامياً.. كما كان لافتاً منذ البداية انقسام «النظام»، واتخاذ الانتفاضة شكل صدامات مسلحة ما انفكت تهدد جدياً اللحمة الشعبية والانتماء الوطني الموحّد، وعدم بروز تباين جوهري اقتصادي– اجتماعي، بين سلطة القذافي والناطقين باسم المنتفضين وراكبي موجتهم، وضبابية الرؤية لدى المعارضة الداخلية والخارجية ورهان الكثير من رموزها على «الدعم الدولي».. أو على الأقل هذا هو الانطباع الذي تحاول تكريسه وسائل الإعلام الغربية والناطقين الرسميين باسم القوى الإمبريالية في أوروبا وأمريكا.
وإذا أخذنا بعين الاعتبار التنازع الكبير بين القوى والشركات الإمبريالية الكبرى على النفط الليبي، ورغبة هذه القوى وعملائها والتابعين لها في النظام الرسمي العربي بإيقاف أو عرقلة عدوى الانتفاضات، وتشويه صورتها قبلياً في ليبيا، وطائفياً في بلدان أخرى، وإغراقها في الدماء مع احتمال تحولها إلى اقتتال أهلي، وتحميلها مسؤولية إعادة الاستعمار للسيطرة على مقدرات وثروات ترابها الوطني، تكتمل ملامح هذا الاستعصاء، وتصبح المسألة برمتها شديدة التركيب شكلاً ومضموناً..
لكن من المهم التأكيد في هذه اللجة أن الشعب الليبي الثائر في ميادين المواجهة المفتوحة والدامية، ينضج وعيه الوطني والسياسي بصورة متسارعة بشدة، وبدأت تغلب على تحركاته وتصريحات رجالاته الميدانيين الرويّة وسعة الرؤية، ولعل إعلان مجلس الحكم الانتقالي رفضه لأي تدخل خارجي هو مؤشر أولي على تجاوز الانتفاضة للانفعالات العفوية، وبدء تعاطيها مع ذاتها بمسؤولية واسعة وعميقة، وهو ما يمكن الرهان عليه جدياً في الأيام القادمة، خصوصاً في مواجهة تزايد احتمال تدخل عسكري أمريكي وشيك بتواطؤ رسمي عربي..
لم تنفع القذافي بعد اندلاع الانتفاضة الوعود الداخلية بالإصلاح، والتعهد بإجراء تغييرات واسعة سياسية وإدارية، وتقديم الرشا لشيوخ القبائل، والاستعانة بالمرتزقة والمأجورين، كما لم تنفعه تحذيراته للغرب من احتمال سيطرة «القاعدة» على السلطة في ليبيا إن هو سقط، ولا أمواله المنهوبة المكدّسة في البنوك الخارجية، ولا «صداقاته» مع سارقي ثروات بلده.. واليوم، الأمل بالمنتفضين في بلد عمر المختار ألا تقع الكارثة الكبرى وتنتقل ليبيا من حكم الطغاة إلى حكم الغزاة في بلد يراد تقسيمه وإحداث تنازع بين سلطات منقوصة على أساس ذلك بين فلول النظام ومناوئيه..
هذا ما يجب على المنتفضين في ليبيا أن يعوه ويتحسّبوا له..