محطة الانتخابات ليست نهاية المطاف

محطة الانتخابات ليست نهاية المطاف

طرحت نتائج الانتخابات المرحلة الأولى في مصر وقبلها الانتخابات التونسية والمغربية، موضوعات ترتبط بالفكر السياسي ومآل الثورات والاحتجاجات في تلك الدول.

وقيل هذا «أول الغيث» وها هي الأحزاب الدينية تقطف ثمار ثورات الجياع والمظلومين ناهيك عن أن تلك الأحزاب تحمل العديد من عوامل النكوص والتراجع عن الديمقراطية، عدا عن أن الأيديولوجيا الدينية لم تحل تاريخياً مشكلات المجتمع، وتلكم دروس التاريخ منذ خلافة عثمان بن عفان مروراً بالأمويين والعباسيين وحتى أيامنا هذه، يضاف إلى ذلك أن الثورات التي قامت من أجل العدالة الاجتماعية انتهت تحت تأثير الدعاية القائمة على أن تلك الثورات تخالف التعاليم الدينية ولا تتمسك بالحلول الإسلامية، كان ذلك مصير الثورة القرمطية، ولم يكن صراع السلاح إلا الوجه الذي يستخدم تحت ذرائع دينية تدين كل حركات جماهيرية تناهض الظلم وتسعى إلى العدالة.

ولكن دروس التاريخ أيضاً فيها الكثير من الأدلة على أن التلطي وراء الشعارات والإيديولوجيات الدينية لم يستطع أن يقي الحركات الدينية من الفشل الذي انتهت إليه، ولم تفلح في رؤية جديدة التطورات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية، وشكلت تلك القوى الدينية عاملاً أساسياً في استدامة التخلف وضخت موجات التكفير ومنعت الفكر من أن يأخذ دوره في تطوير الشعوب ومواجهة مشكلاتها وحلها.

وليس نادراً أن يواجه المرء آراء تقلب الأمور رأساً على عقب، وترتفع أصوات تتخذ من نتائج الانتخابات مادة لمهاجمة الديمقراطية، فشوقها مادام مشدوداً نحو الأحكام العرفية وحالة الطوارئ والمحاكم الاستثنائية، وتتجاهل تلك الآراء أن تلك الثمار نتاج طبيعي لعداء الديمقراطية وخنق الحربات الديمقراطية، وهي نتاج عقود من الظلم السلطوي الذي لم يكن في حالة طلاق مع الأيديولوجية الدينية، ولم تكن السلطات توجه نارها الحامية ضد التنظيمات الدينية، وكان محالاً أن تضع حداً للأنشطة الدينية، ناهيك عن أنها كانت تقدم أسس وبواعث تقوية الأحزاب الدينية وتكوين المناخات الملائمة لها.

يقيناً أن تلك الأحزاب أدخلت تغيرات على مفاهيمها السياسية، ولم يكن ذلك مصادفة، بل جرى تحت تأثير العوامل المتطورة والأوضاع المتغيرة، ويمكن القول إن النكوص عن ذلك سيشكل في ظروفنا الراهنة أساساً لظواهر عديدة بما فيها الانقسامات والفرز داخل تلك الأحزاب على فشل تلك الأحزاب والحركات، وأساساً هاماً لفضح طبيعتها الطبقية والسياسية، ولا يقتصر الأمر على أن تيارات دينية تتكون مناهضة للنكوص ومبتعدة عن مفاهيم وآراء وممارسات القوى السلفية، فالجديد في المرحلة هو تكوين أحزاب علمانية من شأنها أن تدخل وعياً آخر في صفوف الجماهير الشعبية، وذلك ما يميز المرحلة الراهنة من التوتر حيث خرجت الأوضاع عن تلك الحالات التي يفرخ فيها فشل تيار وحركة دينية تياراً وحركات دينية أيضاً.

إن التطورات التي وصلت إليها الأوضاع لا تسمح أن يتكون ذلك النكوص الجذري، وقد اختصرت التطورات العلمية المسافة بين الأخذ بالنكوص وتبريراته الداخلية والخارجية وبين الوعي الاجتماعي، فالسبل المعرفية الراهنة أضحت لا تخدم استراتيجيات النكوص والتلطي وراء الشعارات الدينية، كما أن تلك الثورات التي قامت رسخت أرضية عن حقوق الشعوب والإنسان، سواء فيما يتعلق بدور الشعب أو فيما يتعلق بالحكومة ومدى انسجامها مع متطلبات الشعب ومصالحه الوطنية والاقتصادية.

لقد تجاوز الوعي الاعتيادي مرحلة الذهاب نحو التعويذات وفنون السحر، وتجاوز الوعظ الذي لا يحل مشكلات الزراعة والصناعة والبطالة والفقر، وأضحت تلك المواضيع شأن الحكومات ومدى صلاحها، ولم يعد أحد قادراً على أن يدعي أن تلكم معضلات وحلها شأن إلهي.

إن ما رسخته الثورات هو مسؤولية الحكومة وبصورة مباشرة، عن كل ما يحصل على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، أما الهام الآخر الجديد فهو أن المنابر في الجوامع لم يعد دورها مقتصراً على الوعظ والتمنيات وعزل الجماهير عن مشاكلها، وقد حولت الثورات تلك المنابر إلى وظائف جديدة تتناول الوقائع الملوسة في مختلف الميادين، وفي المقابل تكون عند الوعي الاعتيادي نظرة جديدة إلى مهمة تلك المنابر، فمن يعتليها عليه أن يقدم الحلول الناجعة لتخطي المعضلات التي تواجه الشعب على الصعد كافة

يلاحظ بوضوح تنامي عوامل التنوع من جهة، وتنامي عوامل الوحدة الوطنية من جهة، وأصبح النقاش والحوار مادة فاعلة في الوعي الاجتماعي، ولم تعد سيطرة فكرة أن الذي يلوذ بالدين له حق التصرف المطلق على هواه، وقد شهدت تونس حوادث عديدة، كما شهدت مصر حوادث متنوعة موجهة ضد الوحدة الوطنية.

إن الصراع الفكري والسياسي في ظروف ذلك التنوع يشكل الآن أحد مرتكزات زحزحة هيمنة التيارات الدينية، التي أخذت تواجه الواقع بتعقيداته، خاصة وأن برامجها، رغم كل الجهد الذي بذلته كي تكون مؤثرة لا يمكن إلا أن تبقى هشة، فالأيديولوجيا الدينية لا تتأسس حلولها خارج نطاق استمرار وترسيخ علاقات الإنتاج الرأسمالي، وبعبارة أخرى فإن الأسس الاقتصادية التي تعتمدها الأحزاب الدينية تحول دون تحقيق مطالب الشعب، وتحول دون تنمية شاملة ومستدامة، وتحول دون تحقيق العدالة.

إن ذلك وغيره يكون الأساس الجديد لنقلة جديدة في الوعي الاجتماعي عبر الصراع الفكري والسياسي على أسس الديمقراطية بكامل أبعادها.