تراجيديا المشهد السوري عودة إلى الوراء وهروب نحو الأمام!
فاتحة الكتابة عن المشهد السوري الراهن هي التأكيد على أن الحركة الاحتجاجية السلمية في البلاد هي عملية تاريخية موضوعية، وهي في التحليل العميق نتيجة حتمية لمظاهر القهر الاجتماعي والسياسي في ظل سيادة علاقات الإنتاج الرأسمالية الطفيلية التي قوننتها البرجوازية الريعية السورية في السنوات الأخيرة، مثلغيرها من الشرائح الاجتماعية الحاكمة أو المتنفذة في بلدان رأسمالية الأطراف، التي تشكل امتداداً موضوعياً على منظومة الرأسمال المالي على النطاق الدولي، مع التذكير بإحدى أهم خصائص برجوازية بلدان الأطراف عامة وهي اتكاؤها على القمع المباشر لديمومة النهب وتراكم الثروة.
القديم ينازع، والجديد لم يتبلور بعد.. القديم يخالف اتجاه التطور التاريخي، وبات عائقاً أمام التطور الموضوعي بسبب مصالحه الطبقية ومنطقه في التفكير، دون استكمال بناء الجديد الحقيقي القادر على فرض إرادته والتحكم بمسار التطور، وهنا تتكون حالة الفراغ المؤقتة التي تؤدي إلى تشويش الرأي العام في ظلديكتاتورية الإعلام المهيمن الذي يفرض الوعي الزائف، ليلقي بظلاله على الفكر السياسي السوري ويؤثر على أداء الحركة السياسية السورية والكثير من النخب السياسية والثقافية والإعلامية، سواء كانوا في طرف النظام أو في طرف القوى التي تسمي نفسها بالمعارضة.
إنها أزمة بنية كاملة، وإن اختلفت المواقف والمواقع والخنادق، فنموذج النظام الرأسمالي الطرفي الهش لم ينتج إلاّ نقيضه الهش، أي معارضة كاريكاتورية هشّة, وأحد أهم مآسي هذه البنية بطرفيها أنها لا تستمد عناصر قوتها وديمومتها واستمرارها من قواها الذاتية الموضوعية التي من المفروض أن تكتسبها من مدىالتجاوب مع مصالح المجتمع، فتلجأ إلى رصيد وهمي، شيكات بلا رصيد... توازن القوى ضمن النظام حسم الخيار باللجوء إلى القمع الذي لم ولن يجدي نفعاً مع حركة شعبية مبررة موضوعياً، وتمتلك شحنات وجدانية هائلة، قادرة على اقتحام ما في الأرض والسماء ليرتفع على أثر ذلك منسوب الدم، بسبب العنف والعنفالمضاد لاحقاً وبالتالي تمّ فسح المجال لتجار الحروب والوحوش الضواري والقتلة الدوليين أن يحاولوا إعطاءه الدروس في الديمقراطية وحقوق الإنسان. أما المعارضة الخارجية (سواء كان الذين يتمظهرون بالدين، أو أصحاب الطرابيش الليبرالية كعلامتين فارقتين للمعارضة السورية - سبحان مين جمّع ووفّق!)، والتيتُسوّق كنقيض وبديل افتراضي عن النظام تهافتت نحو الخارج، وأي خارج؟ ذلك الخارج الذي كان على الدوام بالضد من مصالح الشعب السوري، والذي يجاهر بوجود مشروع استراتيجي لإعادة صياغة خريطة العالم والمنطقة.
خيار البعض في النظام يحاول إعادة عقارب الساعة إلى الوراء والعودة إلى المربع الأول، وبالضبط إلى تلك البنية التي أنتجت الأزمة التي تكاد أن تطيح بالنظام نفسه أما النقيض الافتراضي «المعارضة الخارجية» العاجزة تهرب نحو الأمام إلى استجداء التدخل الخارجي الذي لا معنى له إلا نسف بنية الدولة مهما تشاطرتأبواق تلك المعارضة وفسّرت الموقف بغير ذلك، وتبحث عن حبل تتمسك به للوصول إلى السلطة، حتى لو كان هذا الحبل بيد الشيطان، ولكلّ جوقةٍ معارضة شيطانها طبعاً، وإلا فما سر لجوء جوقة الردح الليبرالية في المعارضة إلى مشيخات النفط لاستجلاب الديمقراطية، وما الذي يجمع بين المشيخة واللبرلة؟ وأي هوىيجمع بين برنار ليفي، والقناة الإسرائيلية الثانية وبين من يدّعي تمثيل الدين الإسلامي الحنيف؟؟
ما بين محاولة العودة إلى الوراء والهروب نحو الأمام تكتمل فصول المأساة السورية الراهنة، ليصبح وجود الوطن بحد ذاته موضع سؤال، وعندما يكون الأمر كذلك لا معنى لوجود المعارضة والنظام أصلاً.
إن الخطاب الوطني الشعبوي الذي يتشدق به بعض «أنصار النظام» لا قيمة فعلية له بالمعنى العملي، فلقد ولى إلى غير رجعة دور ذلك النموذج من الدولة الوطنية التي تتنطح للدفاع عن الوطن ضد «المؤامرة» وأغلبية أبنائه تحت خط الفقر ومئات الآلاف من شبابه على أبواب السفارات أو في المهاجر, أو في سوقالعاطلين عن العمل. وسلطاته التنفيذية هي وحدها صاحبة الأمر والنهي رغماً عن أنف أي قانون أو دستور أو حتى التقاليد الاجتماعية.. إن هذا النموذج ما عاد يمتلك أياً من مقومات وجوده سوى قوة العطالة التاريخية، أي عدم تبلور البديل الحقيقي.
في عالم اليوم، لا فاعلية لأي موقف وطني دون أن يقترن بمحتوى اجتماعي، أي دون توزيع عادل للثروة الوطنية, ولا فاعلية لأي موقف وطني دون حريات سياسية يستطيع المواطن من خلالها التعبير عن مكنونات الذات الإنسانية المستلبة، وكي يدافع عن حقوقه ويعي واجباته، فالمتآمر بالنسبة إلى المواطن العادي هو منيسرق لقمة خبزه ويصادر حريته.
وفي ظل وجود مشروع استعماري معلن لا معنى لأية ديمقراطية إذا لم تقترن بالنضال من أجل الحفاظ على السيادة الوطنية والاستقلال الوطني، ولا معنى لأية ديمقراطية تأتي من طرف من ينكر على المرأة حقها في قيادة السيارة حتى الآن ولا معنى لأية ديمقراطية مخبأة تحت عباءة من انقلب على أبيه لاستلام الإمارة...وقبل أن يتنطح أحد من المعارضين ويتهمنا بالدفاع عن النظام لأننا نشكك بأصحاب الجلالة من ملوك النفط نقول: إن الوطن ليس ملك النظام، والدفاع عنه والوقوف ضد التدخل الخارجي هو قبل كل شيء، دفاع عن الشعب عن ماضيه وحاضره ومستقبله ودفاع حقيقي عن الحركة الشعبية وسعيها المشروع من أجل التغييرالوطني الديمقراطي.
إن حالة الكباش بين أنصار الحل الأمني في النظام، وأنصار التدخل الخارجي في المعارضة أنهك كل عناصر البنية الوطنية السورية، وأنهك الأغلبية الشعبية وشوّه – ولو مؤقتاً وجزئياً- أشرف وأنبل ما أنتجته الديموغرافيا السورية خلال العقود الخمسة الماضية، أي الحركة الشعبية، فامتطى صهوة هذه الفرس الأصيلة ماهب ودبّ من أشباه الخيالة، ودخلوا ميدان السباق بعضهم يحاول لجمها للرجوع باتجاه الدولة الأمنية، وآخرون يوجهونها باتجاه التسليح والتطييف والتدخل الخارجي أي اللا دولة.