الكارثة لا تنتظر أحداً..!
منذ نهاية الجولة الثانية من «جنيف-2»، وما كان يوازيها من تحولات دولية وإقليمية، تجري عملية إعادة ترتيب جديدة للأوراق على المستوى العالمي، بما يعنيه ذلك من انعكاسات إقليمية
وفي هذا السياق تواصل «واشنطن» المتراجعة باضطراد محاولاتها لإشعال أكبر قدر ممكن من الخارطة العالمية ضمن عملية ربط كبرى بين جميع الملفات، عملية تلجأ إليها اضطرارياً للهروب من مواجهة كل استحقاقٍ على حدة. وهي بذلك لاتزال تحلم بالوصول إلى «صفقة» دولية ما تنجيها من التراجع المحتوم، أو تخفف من آثاره، قدر المستطاع.
ولعل أبرز نقاط إعادة ترتيب الأوراق على المستوى العالمي تتجلى فيما يلي:
• محاولة رفع مستوى الضغط على روسيا بعد فشل تفجير الوضع عسكرياً في أوكرانيا، من أجل الإبقاء على قضية أوكرانيا وتحويلها إلى ورقة تفاوض، في مقابل إضعاف الروس للنفوذ الغربي في أوكرانيا عبر القرم بدايةً، وصولاً إلى كامل الحزام السوفياتي سابقاً، ومن ثم في كامل منطقة شرق أوروبا.
• الضغط على مصر- التي تظهر فيها إشارات لتحولات إيجابية- من جميع الجهات عبر الإمعان في تهديد أمنها القومي، بوجود الوضع المتفجر في ليبيا والسودان وسيناء، وفي الداخل المصري، لمنع تبلور الدور المصري التاريخي الوطني وتأثيراته الإيجابية الكامنة في مواجهة مخططات واشنطن وحلفائها في المنطقة.
• بداية انفراط عقد «مجلس التعاون الخليجي» الذي تأسس عام 1981 كترجمة لتوازن دولي كانت واشنطن هي الأقوى فيه حينها، وذلك ضمن إعادة تشكيل لتحالفات جديدة تتناسب مع التوازن الدولي الجديد.
• وفي السياق ذاته، يتهاوى «الخيار الإخواني» بعد انتهاء دوره الموكول وثبوت عجزه في دول عدة عن تقديم بديل مناسب من وجهة النظر الأمريكية.
بالتزامن مع هذه العملية الواسعة لإعادة توزيع النفوذ الدولي الجارية في كل من شرق أوروبا ومحيط بحر قزوين والخليج العربي وشرق المتوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، يبرز على السطح تبريد تعاطي الدبلوماسية الدولية مع «ملف» الأزمة السورية وحلها سياسياً، حيث تعمل واشنطن على عرقلة انعقاد الجولة الثالثة من «جنيف-2» إلى حين تحسين أوضاعها في ملفات عدة أخرى، إلا أنها- وكما في فكرة التوجه إلى جنيف أساساً- ستجبر على الذهاب إلى الجولة المقبلة في وقت غير بعيد، وبشروط أضعف مما كانت عليه سابقاً.
فإذا كان ارتياح البعض تجاه التوازن الدولي وطريقة سير الصراع على المستوى العالمي والإقليمي أمراً محقاً ومشروعاً وله ما يدعمه من مؤشرات وحقائق اقتصادية وسياسية وعسكرية، فإنّ من غير المريح وغير المشروع إطلاقاً أن يقوم البعض الآخر بربط حلحلة الأزمة السورية ربطاً نهائياً بإنجاز التحولات الدولية، لأن آجال استقرار الموازين الدولية الجديدة هي آجال متوسطة بين (5- 10) سنوات، في حين أنّ الآجال التي يمكن لسورية الدولة والشعب أن تستمر فيها ضمن النزيف والدمار الجاري ليست بالطويلة أو حتى المتوسطة، بل هي آجال قصيرة جداً.
إنّ «جنيف-2» بوصفه الممر الوحيد نحو إيقاف التدخل الخارجي وإيقاف العنف وإطلاق عملية سياسية حقيقية تنتهي إلى تقرير السوريين مصيرهم بأنفسهم في جميع القضايا والاستحقاقات الأساسية، هو بلا شك مرتبط أشد الارتباط بالكيفية التي يجري بها الصراع الدولي، ولكن تجذير الحل السياسي في الداخل السوري هو مسؤولية وطنية لا ينبغي انتظار أي طرف دولي أو إقليمي للتصدي لها، وذلك عبر توسيع رقعة الهدنات والتسويات التي أثبتت فاعليةً كبرى وقبولاً اجتماعياً واسعاً، وعبر إيجاد حلول جذرية سريعة لقضايا المعتقلين والمخطوفين والمفقودين والحصار والإغاثة الإنسانية، وعدم السماح لائتلاف الدوحة، وأشباهه، ومن وراءه، بالسمسرة بدمائهم وبالتفاوض «دفاعاً عنهم».
إنّ تمهيد الجو الداخلي للجولة القادمة من جنيف عبر حلحلة هذه الدفعة من جملة القضايا السورية العالقة، وعلى رأسها تطويق الكارثة الإنسانية، هو واجب وطني بامتياز، ولا مبرر لدى أي طرفٍ من الأطراف في التأخر عن معالجته، أو تسييس هذه المعالجة.