«بعض يسار.. بهِ فصام»!

«بعض يسار.. بهِ فصام»!

في مقاله المنشور في صحيفة «الأخبار»، بتاريخ 31-1-2014، والمعنون بـ«توقّفوا عن الهذيان... تقدموا»، يدعو السيد حتّر المعارضة الوطنية السورية إلى التخلّي عن «الهوس بعداء النظام السوري»، الذي هو أشبه بـ«هذيان لم يسلم منه معظم المثقفين السوريين والعرب، منتقلين بين رايات معادية لدمشق». وإذا كانت الهذيانات «تلزمها المعالجة النفسية وليس السجال، فإنه ربما آن الأوان، لكي نقول: كفى! كل الرايات التي قاتلت أو عادت أو استعدت الجماهير على النظام السوري، سقطتْ في الوحل، وبقي رجاله هم الذين يؤكدون أولوية السيادة والتحرير والدور القومي لسورية ووحدتها ورابطتها الوطنية المدنية- العلمانية».

يسعى السيد حتّر بهذا الكلام إلى توصيف الفكر المعارض على أنه انعزالي، وليس أكثر من «هذيانات» يلزمها معالجة نفسية، فقد يكون الترف، أو القصور المعرفي، هو الذي جعل من المعارضة معارضة، وكأنّ سورية لم تعان من شيء! وأن المشكلة فيها تنحصر في ثلّة من «المثقفين المارقين» الذين عكّروا «الصفو الوطني» لهذا البلد الآمن!

قبل الخوض في الأسباب الموضوعية والعميقة لوجود المعارضة الوطنيّة، والتي يتجاهلها عامداً السيد حتّر، كما سنرى لاحقاً، علينا أن نسأله: هل كانت مشاركة ملايين السوريين في الاحتجاجات الشعبية السلمية في عام 2011 من باب «الهذيان» ذاته؟! أمّ أن هؤلاء خضعوا لغواية «المثقّفين» في «معاداة» أو «استعداء» النظام؟ ألا يذكّر كلام السيد حتّر هذا بوجهة نظر الأجهزة الأمنية السورية، التي تعتقل السوريين، و«وتعالجهم نفسيّاً» على طريقتها من خلال وعظهم وإلقاء دروس الوطنية عليهم، فضلاً عن تعذيبهم، في المعتقلات؟؟

لنذكّر السيد حتّر، أن الفساد وارتفاع معدلات الفقر والبطالة والتهميش، نتيجة السياسات الليبرالية المطبّقة من جانب الحكومة السوريّة، قبل انفجار الأزمة، بالإضافة إلى انخفاض مستوى الحريات السياسية، واستحقاق خوض المواجهة الوطنيّة الشاملة مع العدو الصهيوني، كل ذلك هو الذي صنع الحركة الشعبية السلميّة والمعارضة الوطنيّة. وأنّ هاتين الأخيرتين لا تتحمّلان المسؤولية عن التدخّلات الخارجيّة، بقدر ما يتحمّلها العنف المزدوج، الذي مارسته قوى الفساد في النظام وقوى المعارضة المرتبطة بالخارج..

أمّا عن الانضمام إلى «الرايات المعادية لدمشق»، فحريّ بالسيد حتّر أن يوجّه هذا الكلام إلى المعارضة اللاوطنيّة، كائتلاف الدوحة وغيره من القوى والشخصيات القابعة في العواصم المعادية للشعب السوري، وليس إلى المعارضة الوطنيّة، التي يضطر حتّر، في تناقضٍ صريح، للاعتراف بوطنيتها في مقاله المذكور، و«تفوقها الأخلاقي». إلا أن ذلك لا يخفّف من تحامل حتّر عليها، ليصفها بأنها، فيما عدا «التفوّق الأخلاقي»، لا تمتلك سياسيين «أفذاذ»، كما لدى النظام، ولم يميّزها أي شيء سوى التفوّق الأخلاقي «وحسب» على «ذلك القطيع من عملاء الاستخبارات الغربية والخليجية، وممثلي الجماعات الإرهابية».

وهكذا فإن حتّر يسعى لتشويه المعنى العميق والوطني للمعارضة، من خلال خلطه المقصود بين سلوك معارضة اسطنبول أو الدوحة، اللاوطنية، وبين مواقف وسلوك المعارضة الوطنيّة في الداخل. والهدف من ذلك هو إظهار النظام وكأنّه يقف على يسار الجميع، وكلما ابتعد المرء عن صفّ النظام اقترب بذلك من اليمين الداعي إلى الاستقواء بالخارج والعمالة.. الخ، والذي تمثّله المعارضة اللاوطنية. ويجد حتّر قرائنه العجيبة على زعمه هذا، فيتهم أحد أبرز رموز المعارضة الوطنية، د. قدري جميل، بأنّه «تخلّى عن موقع رجل الدولة، عشقاً في أن يظل رجل المعارضة»، متجاهلاً عن عمد أن الجهة السياسية التي ينتمي إليها د. قدري جميل كانت قد حدّدت هويتها كمعارضة، ليس بعد تخلي ممثلها في الحكومة عن موقعه فقط، بل قبل انفجار الأزمة بكثير، وأن مشاركة د.جميل، كممثل لحزب معارض، جاءت في مرحلة استثنائية، ومحدّدة سياسياً وزمنياً، بما يخدم هدفاً مبدئياً هو خروج البلاد من أزمتها العميقة والشاملة، وليس للانضواء تحت جناح النظام، كما يصوّر الأمر كاتب المقال المذكور.

إن الحقيقة، التي لا يروق للسيّد حتّر الاعتراف بها، هي أن أجزاءً واسعة من المعارضة الوطنيّة تقف إلى يسار النظام، وذلك من خلال تبنّيها للموقف المركّب، الذي جاء من خصوصيّة الأزمة السورية وتعقيداتها، ويتمثّل بمعارضة النظام الاقتصادي- الاجتماعي، فضلاً عن النظام السياسي المطابق، ورفض الإملاءات والتدخّلات الخارجيّة في الوقت ذاته. وأنّ هذا الموقف بالذات جعل من المعارضة الوطنيّة في منطقة تقاطع نيران اليمين بشقّيه: «النظام- المعارضة اللاوطنية».

وأخيراً، فإن من المفارقات العجيبة أن يقول حتّر في مقاله إنّه لو كان مواطناً سورياً، لكان «معارضاً بالطبع للسلطوية والقمع»، التي «تضامنتْ، أخيراً، مع سياسات اقتصادية- اجتماعية نيوليبرالية، أقل ما يُقال فيها أنها أفقرت وهمّشت فئات واسعة من الكادحين السوريين؛ إنما، في المقابل، ما كنتُ لأحاور العملاء-  باعتبارهم معارضين- وما كنتُ لأخفض بندقيتي أو كلمتي في مواجهة العدوان والإرهاب».

المفارقة ليست فقط في أنّ السيد حتّر يَفصل، بتحليله الميكانيكي، بين الموقف الطبقي والموقف الوطني فصلاً تعسفيّاً، ولا في مزاعمه الكاذبة بأن المعارضة الوطنية لم تقف موقفاً ضد العدوان الخارجي والإرهاب. إن المفارقة، بل والفصام، تظهر بشكّلها الفج لدى متابعة مواقف السيّد حتّر من القضيتين الطبقية والوطنيّة في الأردن، فكل متابعي «اللقاء اليساري العربي» الثاني، الذي انعقد في بيروت، يذكرون جيداً موقف السيّد حتّر من النضال ضدّ اتفاقية «وادي عربة»، بين النظام الأردني والكيان الصهيوني، فقد كان موقفه واضحاً من هذه المسألة: الأولوية للنضال الاقتصادي- الاجتماعي، وليس للنضال الوطني ضدّ اتفاقية «وادي عربة». هكذا الأمر ببساطة لدى السيّد حتّر(!) الذي ما انفك يتحفنا بمحاضرات عن المعارك الوطنيّة، باذلاً قصارى جهده في تشويه سمعة المعارضة الوطنيّة. فالأولوية، بحسب حتّر، للنضال الاقتصادي- الاجتماعي في بلدٍ عربي وقع نظامه اتفاق استسلام مع الكيان الصهيوني! بينما يخوّن المعارضة الوطنيّة التي، وبالرغم من وقوفها ضدّ التدخلات الخارجيّة بكلّ أشكالها، لا تزال تستطيع أنّ تميّز بين الموقف الوطني الصائب للشعب والدولة السورية، وبين فساد المفسدين الذين يتسترون بعباءة الوطنيّة.

نقلا عن موقع «قاسيون»