أفكار متقاطعة
دم على عتبة (بيت الله) من القاتل، وكيف (نثأر)؟
ربما لا يوجد ما هو أكثر تراجيدية من أن تُرتكب مجزرة بحق رجال ونساء وأطفال يؤدّون الصلاة من أجل السلام، داخل دار عبادة تحمل اسم قديس، وباسم الله.
أمام هذا المشهد، تبدو اللغة خرساء، عاجزة عن التعبير عمّا يختلج النفس. هنا، ينبغي للعقل أن يتكلّم، الجانب العاطفي والانفعالي على مشروعيته، وحدها لا يرتقي إلى مستوى المأساة.
1
بعد كل عملية إرهابية أو مجزرة جديدة، تنصرف أغلب التحليلات إلى الجوانب الجنائية: طريقة التنفيذ، المنفذ، الأداة، والجهة الفاعلة إن وُجدت.
وفي غمرة الجدل والندب والاتهامات المتبادلة، يغيب البعد السياسي، رغم كونه البُعد الجوهري. فكل مشكلة أمنية، في ظروف الأزمة، هي في جوهرها مشكلة سياسية. ولا يمكن مقاربتها مقاربة صحيحة إلا باعتبارها جزءاً من الأزمة العامة في البلاد وأحد مخرجاتها.
دون هذا الفهم، يصبح الحديث عن الدم المسفوك – بغضّ النظر عن النوايا – نوعاً من اللغو والمزايدة، التي تؤدي الوظيفة نفسها التي يريدها «مدير عمليات الدم».
2
في بنية اجتماعية هشّة، يعمل قانون «الفعل ورد الفعل» بكامل فعاليته. تنشأ قوة دفع ذاتية تعيد إنتاج نفسها، فيتجدد زخمها وتتسع رقعة تأثيرها، وتستبيح مساحات أوسع من الوعي الجمعي.
ويغيب التفكير العقلاني، وتتفلت الغرائز. وأكثر أشكال الغرائزية انحطاطاً هو حين يأخذ الفعل ورد الفعل طابعاً هويّاتياً – دينياً أو طائفياً أو عرقياً. هنا يتحقق الهدف الحقيقي لسفك الدماء: تعميق الانقسامات التقليدية.
وهذه الانقسامات بدورها تمكّن الزعامات التقليدية من فرض نفسها، لتُرسِّخ الانقسام وتُؤَسِّس له، فيصبح لكل جماعة ناطق رسمي ومجالس وهيئات، تُكرّس واقع التجزئة والانقسام.
عودة بسيطة إلى مسار تطور الأزمة السورية وما خلّفته من جراح، تكشف لنا حقيقة مؤلمة:
إحدى وظائف العنف والدم كانت – وما زالت – تهشيم الهوية الوطنية، لصالح هويات فرعية. وهذا ما تسارع بعد 8 ديسمبر وانهيار السلطة السابقة، حيث بدأت هياكل «رسمية» بالظهور، تدّعي تمثيل جماعات سورية تحت ذريعة «حمايتها»، وتحت قداسة الدم يمنح القائمون على هذه الهياكل لأنفسهم حق اتخاذ مواقف مصيرية، بل واستدعاء قوى خارجية لحماية الجماعة.
طالما أن «المنقذ المفترض» – أي السلطة – لا يقوم بواجبه، صمتاً أو تواطؤاً من بعض الأجنحة، تبدأ رحلة البحث عن داعم دولي أو إقليمي. وهكذا تُعبّد الطريق لمشروع التقسيم، أو على الأقل ترسيخ نموذج «الدولة الهشّة»، وصولًا إلى شرعنة «دولة المكونات» وفي الحال هذه يصبح من يدعي تمثيل الضحية والقاتل فريق عمل واحد لتحقيق الهدف ذاته بغض النظر عن اختلاف النوايا والغايات.
3
ينبغي ألا تذهب دماء ضحايا مجزرة الكنيسة هدراً. فهي دماء مقدّسة، ككل دم سوري أُريق.
وهذه القداسة تتطلب معرفة السبيل الصحيح للثأر، ومعرفة كيفية إيقاف مسلسل الدم. لا يمكن الانتقام لهؤلاء من موقع ديني ضيّق، فدمهم ليس مسيحياً فقط، بل هو دم مواطنين سوريين، دم وطنٍ مجروح، والخلاف الجوهري مع السلطة ليس لأنها تمثل طائفة أو جماعة دينية، ولا هو خلاف ثقافي حول السلوك واللباس وعدد الأفراد في الاسرة الواحدة، بل هو خلاف سياسي، مرتبط بطبيعة مشروعها، وتحديداً بطريقة إدارتها لاستحقاقات المرحلة الانتقالية، وفهمها لطبيعة الأزمة السورية وأدوات حلها.
4
لا يكفي – ولا يجوز – تعليق كل العجز والقصور على إرهاب «داعش»، كما كان يحدث أيام النظام السابق. داعش ليست أشباحاً، وليست طائفة، بل هي مشروع سياسي، أداته الوحيدة الإرهاب.
ومواجهة هذا المشروع لا تكون أمنيّة أو إعلامية فقط، بل تبدأ أولاً بتجفيف المستنقع الذي ازدهر فيه: مستنقع الحرب، والتجويع، والقمع، وامتهان الكرامة، والتدخل الخارجي.
وحدها معركة وطنية شاملة، يشارك فيها كل السوريين العقلاء، يمكن أن تُسهم في دفن داعش وسواها.
ومن هنا، تأتي أهمية انعقاد مؤتمر وطني سوري عام، بمشاركة كل القوى السياسية والمجتمعية، ليقرر السوريون مصيرهم بأنفسهم.
5
نختصر فنقول:
يجب توظيف كل المعارف، وكل الألم والقهر المتراكم، لدفع عجلة الحل. لا بد من معالجة الأزمة من جذورها، وفق برنامج سياسي عابر للهويات التقليدية.
فالقاتل ليس فرداً أو جماعة أو طائفة فقط.
القاتل هو من أطلق الرصاصة الأولى، ومن ردّ عليها بعنف مضاد.
القاتل هو الأوهام التي سيطرت على بعض النخب بإمكانية الحسم السريع، وهو القبضة الأمنية التي خنقت الناس، وهو التدخل الخارجي الذي شرّع الأبواب للموت.
القاتل هو تحويل القضية إلى صراع بين البكيني والبوركيني، وتقسيم السوريين بناءً على مظاهرهم.
القاتل هو ثقافة الانتظار والترهّل والتردّد، والانكماش العقيم للنخب الوطنية الديمقراطية عن الفعل والمبادرة وإبداع الحلول حتى الآن.
دم مار إلياس، كدم أي ضحية في هذا البلد، من القامشلي إلى حلب وإدلب إلى الساحل الى السويداء ودرعا ينبغي ألا تكون مناسبة للحزن فقط رغم كل مشروعيته، بل صرخة في وجه الجميع:
كفى نزفاً، كفى تذرعاً بالدم لتبرير مشاريع الآخرين، كفى إعادة إنتاج القتلة بثياب جديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1232