إنجلس - عن المعيار العِلمي للعدالة الاجتماعية
«إنّ ما هو عادلٌ أخلاقياً، وما هو عادلٌ بالقانون، قد يكون بعيداً جداً عمّا هو عادلٌ اجتماعياً. العدالة الاجتماعية أو انعدامها يتقرّران بواسطة علمٍ واحد فقط - العِلم الذي يعنى بالعوامل المادية للإنتاج والتبادل، إنه علم الاقتصاد السياسي». – هذا ما كتبه إنجلس في مقاله «أجورٌ عادلة ليومِ عملٍ عادل»، المنشور كافتتاحية لعدد 7 أيار 1881 من صحيفة «معيار العمل» الناطقة باسم النقابات البريطانية.
تعريب: د. أسامة دليقان
لقد أصبح هذا شعارَ حركة الطبقة العاملة الإنكليزية منذ الخمسين عاماً الماضية. وأسدى خدمة طيّبة إبّان صعود النقابات التالي لإلغاء (قوانين التجمّع) عام 1824 [التي كانت تحظر تشكيل النقابات - المعرِّب]. وما يزال هذا الشعار يسدي خدمة أفضل في زمن الحركة الشارتية الظافرة [حركة العمّال الإنكليز الميثاقية/الشارتية - المعرّب]، في زمنٍ يسير فيه العمال الإنكليز في طليعة الطبقة العاملة الأوروبية. ولكنّ الزمن يجري، وكثيرٌ من الأشياء التي كانت مرغوبة وضرورية منذ خمسين سنة، وحتى ثلاثين، قد باتت عتيقةً اليوم وسوف تُزاح تماماً. فهل الشعار القديم، الذي كان مُوَقَّراً في زمانه، ينتمي إليها أيضاً؟
أجورٌ عادلة ليوم عمل عادل؟
ولكنْ ما هي الأجور العادلة لليوم الواحد، وما هو العمل العادل لليوم الواحد؟ كيف يتم تحديدُها بواسطة القوانين التي في ظلها يوجد المجتمع الحديث ويتطوّر؟ من أجل جوابٍ على هذا السؤال، لا يجب أنْ نلجأ إلى عِلم الأخلاق أو عِلم القانون والمساواة، ولا إلى أي شعورٍ عاطفيٍّ يتعلّق بالإنسانية أو العدالة أو حتى الأعمال الخيرية. فما هو عادلٌ أخلاقياً، وما هو عادلٌ بالقانون، قد يكون بعيداً جداً عمّا هو عادلٌ اجتماعياً. العدالة الاجتماعية أو انعدامها يتقرّران بواسطة علمٍ واحد فقط - العِلم الذي يُعنَى بالعوامل المادية للإنتاج والتبادل؛ إنّه علم الاقتصاد السياسي.
والآن، ما الذي يدعوه الاقتصادُ السياسيُّ أجوراً عادلةً لليوم الواحد، وعملاً عادلاً لليوم الواحد؟ إنها ببساطة معدَّلُ الأجور وطولُ وشدّةُ عَملِ اليوم الواحد، التي يحدّدها تنافُسُ ربّ العمل والموظَّف في السوق المفتوحة. فما هي إذاً عندما يتمّ تحديدها؟
إنّ أجوراً عادلة لليوم، في ظلّ شروط عادية، هي المبلغ المطلوب الذي يؤمِّنُ للعامل الحصولَ على وسائل المعيشة الضرورية، طبقاً لمستوى المعيشة في موقعه وبلده، ليتمكن من الحفاظ على نفسِه أهلاً للعمل وينشرَ ذرّيته. إنّ المعدَّل الفعليّ للأجور، مع تقلّبات التجارة، قد يكون أحياناً أكثر أو أقلّ من هذا المعدَّل؛ ولكنْ في شروطٍ عادلة ينبغي أنْ يكون ذلك المعدَّل هو الوسطيّ الحسابي لجميع التقلّبات.
أمّا العمل اليومي العادل فهو ذاك الطول من يوم العمل، وتلك الشدّة من العمل الفعليّ، الذي يستنفدُ كامل قوَّةَ عملِ العامل ليومٍ واحدٍ ولكنْ دون انتهاك قدرته على أداء الكمية نفسها من العمل لليوم والأيام التالية.
وهكذا يمكن وصف الصفقة كما يلي - يعطي العاملُ للرأسماليّ قوّةَ عمله اليوميةَ كاملةً؛ أيْ بقدرِ ما يستطيع إعطاءَه منها دون أنْ يجعل مواصلة تكرار الصفقة مستحيلاً. وفي المقابل، يتلقى العامل من ضروريات الحياة، وبالقدر نفسه تماماً لا أكثر، ما هو ضروريٌّ للحفاظ على تكرار الصفقة نفسها كلّ يوم. فضِمن الحدود التي تسمح بها طبيعة الصفقة، يُقدِّمُ العاملُ أكثر، بينما يُقدِّم الرأسماليّ أقلّ. إنّ هذا نوعٌ خاصٌّ جدّاً من العدالة.
ولكن دعونا ننظر في المسألة نظرةً أعمقَ قليلاً. فبالنسبة لعلماء الاقتصاد السياسيّ، تكون الأجور وأيام العمل مثبَّتةً بواسطة المزاحمة، وتبدو العدالة وكأنها تتطلّب من الطرفين نقطة الانطلاق العادلة نفسها على نحوٍ متساوٍ. ولكن الأمر ليس كذلك. لأنّ الرأسمالي إذا لم يستطع الاتفاق مع العامل، يبقى قادراً مع ذلك على تحمُّلِ تبعات الانتظار، مُعتاشاً على رأسماله. بينما العاملُ لا يستطيع ذلك؛ إذْ ليس لديه سوى أجره ليعيش عليه، وهو مجبرٌ بالتالي على القبول بالعمل، متى وأينما وبأيّ شروطٍ استطاعَ إليه سبيلاً. إنّ العامل لا يملك نقطة انطلاق عادلة. إنّه مُعاقٌ بشكلٍ مُفزِع تحت وطأة الجوع. ومع ذلك، يُعتبَر هذا عدالةً ورديّةً تماماً بحسب الاقتصاد السياسي للطبقة الرأسمالية.
ولكن هذا محضُ سخافة. فإنّ تطبيق القوة الميكانيكية والآلات على الأعمال التجارية الحديثة، وتوسيعها وتحسينها، قد أدى سَلفاً إلى إخضاع «أيادٍ» أكثر فأكثر، وإلى تسريحها من العمل أكثر فأكثر؛ وإنه يقوم بذلك بمعدل أسرع بكثير من المعدّل الذي يمكن وفقه امتصاص هذه «الأيادي» المُزاحة وتوظيفها مِن قِبل الصناعيّين في البلد. إنّ هذه «الأيادي» المُزاحة تشكّل جيشاً صناعيّاً حقيقياً احتياطيّاً ليَستخدِمَهُ رأس المال. فإنْ ساءَت أحوالُ التجارة قد يتضوّرون جوعاً، أو يتسوَّلون، أو يسرقون، أو يذهبون إلى بيوتات العمل [كانت تدعى شعبياً في إنكلترا «باستيل الفقراء» وهي أشبه بالسجون مع أعمال شاقة عديمة الجدوى - المعرِّب]. وإنْ كان حال التجارة حَسَناً، يكونون جاهزين تحت التصرّف لتوسيع الإنتاج؛ وريثما يتسنّى الحصولُ على عملٍ لآخِرِ رجلٍ أو امرأة أو طفل من هذا الجيش الاحتياطيّ -وهو ما لا يحدث سوى في أوقات الإفراط الجنوني في الإنتاج- حتى ذلك الحين، فإنّ تزاحمهم يُبقي الأجور منخفضةً، وبوجودهم وحدَه تشتدُّ سلطة رأس المال في صراعه مع العمل. في السباق مع رأس المال لا يكون العمل مُعاقاً فحسب، بل ويضطرُّ إلى جرّ ثقلٍ أشبه بقذيفة مدفع مقيَّدةٍ إلى قدمه. ومع ذلك يُعتبَرُ هذا عادلاً بحسب الاقتصاد السياسي الرأسمالي.
ولكن دعونا نتساءل: من أيّ صندوقِ تمويلٍ يَدفعُ رأسُ المال هذه الأجور العادلة جداً؟ يدفعها من الرأسمال بالطبع. ولكنّ الرأسمال لا يُنتِجُ أيّة قيمة. العمل، إلى جانب الأرض، هما المصدر الوحيد للقيمة؛ أمّا الرأسمال نفسه فليس سوى ناتِجِ العمل مُخزَّناً. وبالتالي، فإنّ أجور العمل تُدفَع من العمل، ويُدفَعُ للعامل من منتوجِهِ نفسِه. وتبعاً لما يمكن أن ندعوه عدالةً عامّة ينبغي على أجور العامل أن تكمن في منتوج عمله. ولكن هذا لن يكون عادلاً بحسب الاقتصاد السياسي. بالعكس، يذهب منتوج عمل العامل إلى الرأسمالي، وبالكاد يحصل منه العاملُ على ضروريات الحياة البحتة. وهكذا تكون نهاية هذا السباق، «العادل» لدرجةٍ غير عاديّة، هي أنْ يتراكمَ، ولا مَفرّ، منتوجُ عمل مَن يعملون في أيدي مَن لا يعملون، ويغدو في أيديهم الوسيلةَ الأقوى لاستعباد الناس الذين أنتجوه بالذات.
أجورٌ عادلة ليوم عملٍ عادل! ثمّة الكثير مما يمكن قوله بشأن عمل اليوم العادل أيضاً، والذي عدالتُه مساويةٌ تماماً لعدالة الأجور. ولكن سنترك ذلك لمناسبة أخرى. ومما قيل حتى الآن، يتضح بجلاء تامّ بأنّ الشعار القديم قد عفا عليه الزمن، وما عاد صالحاً اليوم. إنّ عدالة الاقتصاد السياسي، على النحو الذي تَضَعُ فيه هذه العدالةُ القوانينَ التي تحكم المجتمعَ الفعليّ، تلك العدالة كلّها منحازة لجانب واحد - لجانب رأس المال. إذاً، فليُدفَن الشعارُ القديم إلى الأبد ويُستَبدَل به شعارٌ آخر: «الاستحواذ على وسائل العمل والمواد الخام، والمصانع، والآلات من قِبل العمّال أنفسهم».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1191