«الهندسة الاجتماعية» الرأسمالية وتطويع العمّال
اضطرت الرأسمالية المنظَّمة عبر تطوّرها التاريخي إلى التعامل مع مشكلة المقاومة التي تبديها القوى العاملة ضدّ شروط الاستغلال التي يتم إخضاعهم لها، وبدأ ذلك منذ نشوء نظام المَصنَع. فخلال العقود القليلة الأولى من تطوّره، كانت الإجراءات القسرية فعالة عموماً لضمان تشغيلٍ انسيابي للعملية الإنتاجية الرأسمالية، وذلك لأنّ العمّال كانوا في فاقة وعوز شديد من جهة، ويفتقرون إلى الخبرة التنظيمية والوعي الطبقي الكافي من جهة ثانية.
إبّان القرن التاسع عشر، أخذ الرأسماليون يدركون بشكلٍ متزايد أنّ الإجراءات القسرية لها محدودياتها، وأن من المفيد والفعال أكثر استكمالها بآليات سيكولوجية بحيث يضمنون أن يتقبّل العمال فكرة وواقع طريقة توزيع الثروة (غير العادل) لنتاج عملهم الشاق بحيث لا يستهجنون أن يعود النفع على مُشغّليهم الذين لا يعملون.
وفي مرحلة ما لجأ الرأسماليون إلى استغلال بعض الأفكار الدينية وبعض الأخلاقيات والعادات التقليدية حول الطاعة والانضباط في تطويع العمال والحدّ من تمرّدهم. ولكن مع زيادة الطابع العَلماني للمجتمعات والدول الرأسمالية الأحدث، وجدت الطبقة الرأسمالية نفسها بحاجة إلى إيديولوجيا أكثر عصرية. ووجد ذلك انعكاسه في أفكار بعض العلماء الرجعيّين اجتماعياً، مثل هربرت سبينسر المعروف باستناده المشوَّه إلى نظرية داروين لترويج فكرة «البقاء للأصلح» في المجتمع البشري في ثوبٍ «علميّ». فكان مذهب ما يسمى «الداروينية الاجتماعية»، والتي روّجت بأنّه في الصراع من أجل الوجود الاجتماعي أيضاً، فإنّ بقاء الأقوياء على قيد الحياة وسحق الضعفاء هو «قانون طبيعي» ذو طبيعة «أزلية وأبدية» ولا رادّ له. وليس صعباً أن نعثر مباشرةً في هذه الفكرة «العلمية الزائفة» على تبرير سافر ليس للظلم الرأسمالي فقط، بل ولكلّ القمع الطبقي عبر التاريخ، ومحاولة لتصوير استحالة وجود مجتمعٍ غير طبقي بذريعة أنه «يوتوبيا» لا تسمح بها «القوانين العلمية» المزعومة.
والأكثر من ذلك أنّ تعريف «الأقوى» بحسب الداروينية الاجتماعية توسّع ليشمل ما يعتبرونه «الأصلح أخلاقياً» أيضاً. وإذا عدنا لتطبيق هذا المذهب على الإنتاج الرأسمالي، نجدهم يبرّرون وضع الرأسمالي وامتيازاته على أنها ببساطة ناجمة عن كونه «الأصلح للقيادة» بما في ذلك لـ«ذكائه» أو صلاحيته الفكرية أو الخُلُقية الأعلى المزعومة؛ «أوليس هو البطل الذي صنع نفسه بنفسه»؟!
إنّ هذه الإيديولوجيا لا تحاول إسباغ الشرعية على التنظيم الهرمي الطبقي فحسب، بل وتعزّز الأنانية والفردانيّة أيضاً. وبالتالي فإنها تخدم كسلاحٍ إيديولوجي في مواجهة جميع أشكال الاتحاد والتنظيم والتضامن الطبقي والنقابي العمّالي. فالداروينية الاجتماعية تَعتبر بوضوح أنّ النتيجة «الطبيعية» لصراع العمال والرأسماليين هي أنّ قلّة فقط هي التي تفوز بسبب أفضلياتها، وهم عادةً أولئك الذين يتسلّقون سلّم الثروة والسلطة.
نشوء التيلورية والتحفيز المادي
ولكن الإيديولوجيا لم تعد كافيةً لوحدها، وخاصة عندما أخذت النقابات العمالية بالصعود السريع واشتدّ عودها وتحدّيها للرأسماليين، بحيث وجد هؤلاء الأخيرون أنفسهم مضطرين إلى الاعتراف بقوة خصمهم الطبقي. فتلك الجماهير البائسة استفاقت وبدأت بالاتحاد والتنظيم. بالمقابل صار الرأسماليون يحاولون كذلك جمع قواهم في اتحادات واحتكارات.
في مطلع القرن العشرين قدّم المهندس فريدريك تايلور مفهوماً جديداً: «الإدارة العلمية» وعرفت بعده باسم «التيلورية». وشددت الإدارة العلمية على تطوير إجراءات دقيقة لزيادة كفاءة العامل، منها: اتباع نظام العمل بالقِطعة، وتقديم علاوات ومكافئات وحوافز، وغيرها...
وكان الهدف تعظيم الأرباح عن طريق تعظيم الإنتاجية؛ وبأن يتمّ تعظيم الإنتاجية عن طريق التحديد العلمي لِمَن هو الشخص الأفضل المناسب لأداء عمل أو وظيفة معيَّنة، وكيف يمكن للوظيفة المطلوبة أن يتم تنفيذها بأكبر فعالية.
لكن الإيديولوجيا المرافقة للتيلورية كانت حتى أكثر أهمية من التقنيات التفصيلية المطبّقة على أساسها، لأنها شكّلت انحرافاً لدرجة ما عن إيديولوجيا «البقاء للأصلح». ذلك أنّ الإدارة العِلمية، كإيديولوجيا، افترضت بأنّ الطريقة العلمية الجديدة سوف تخلق تناغماً اجتماعياً عبر إظهار كلّ من العمّال وأرباب العمل في «تعاون» فيما بينهم، وترويج التصوّر بأنّ الصراع والتناقض لم يعد ضرورياً. ولكن التيلورية، وكاستجابة لتهديد انضمام العمال المتزايد للنقابات، واصلت التشديد على الفردانية والتنافسية. كما أن التيلورية وضعت الأساس النظري لعلوم النفس والاجتماع الصناعيَّة، التي لطالما عملت يداً بيد مع الإدارة الصناعية.
ولذلك لم تأت التيلورية بأيّ تغيير في النظرة الرأسمالية للعامِل بأنّه مجرَّد «برغيّ» في آلة، وأنّه يجب تشغيله بسلاسة وباستمرار.
ضرورة أخذ «المعنويّات» بالاعتبار
بعد ذلك خلال عشرينيات القرن العشرين، وحتى أواسطه، ظهرت مذاهب رأسمالية إضافية اختلفت مع التيلورية من حيث اقتصارها على الحوافز المادية للعمال، وأخذت تلك المذاهب تحاول أن تنظّر وتطبّق تحفيزات معنوية ونفسية أيضاً، وما زالت تطبّق في الرأسمالية حتى اليوم بشكلٍ أو بآخر.
إنّ الرأسمالية عبر عدة أطوار من تطوّرها دأبت على إدخال تعديلات على تعريفها السائد لماهية الطبيعة البشرية، وكان ذلك غالباً وسيلة هامة عملت عبرها الإدارة الصناعية الرأسمالية على تبرير تغيير تكتيكاتها تجاه الطبقة العاملة. ولم تكن النظرات الفلسفية الرأسمالية للإنسان وطبيعته عبثية أو تصادفية بهذا المعنى، بل يمكن تتبع كلّ تعديل عليها نسبةً إلى الصعود أو الهبوط في قوى اقتصادية واجتماعية تاريخية معيّنة.
وأمام المشكلات الدائمة المتعلّقة بـ«تحفيز» البشر، ولا سيّما حاجة الرأسمالية إلى تحفيز العمال بأي طريقة كانت لانتزاع أكبر ما يمكن من القيمة الزائدة من عملهم، بات من المعترف به في النهاية بأنّ البشر لا يمكن تحفيزهم فقط بإغراءات الثروة والمكانة الاجتماعية، أو العوامل المادية البحتة عموماً بشكل مباشر، بل هناك ضرورة للإشباع الداخلي وشعورهم بتحقيق ذواتهم وأن لهم تحكم وسيطرة على حيواتهم الخاصة، كعوامل حتى أكثر أهمية مما تتصوّره الرأسمالية. ومن المهم في هذا السياق ملاحظة أنّ هذين العنصرين بالذات (تحقيق الذات والتحكم بالمصير) كانا غائبين عملياً عن النظرة الرأسمالية للطبيعة البشرية، في حين كانا بالضبط في قلب المفهوم الماركسي عن الطبيعة البشرية، منذ العام 1844 على الأقل (كما تظهر مخطوطات ماركس الفلسفية والاقتصادية آنذاك). ويمكننا أخيراً أن نعرّج على مسألة لماذا هذه القضية بالذات سببت الكثير من الصداع للمدراء والشركات الرأسمالية، وأنّهم عاجزون عن حلّها.
إنّ أحد أسباب هذه المشكلة بالنسبة للرأسمالية منذ مطلع القرن العشرين بالذات، هو أن الصناعة صارت تحتاج أكثر فأكثر إلى المزيد من العمّال المتعلّمين والمثقفين، كما أنّ العمل الذهني أخذ يحتل مساحات أكبر، وله متطلّبات أكثر تعقيداً من الحاجات الفكرية والمعنوية. فأخذت الطبقة الرأسمالية تتدخل بشكل مؤثر في صيغة وفلسفة التربية والتعليم، ومناهج وطرق التدريس في المدارس الثانوية خصوصاً. فمن هذه المدارس سيتخرج الطلاب الذين سيصبحون عمالاً لديهم. وكذلك الأمر بالنسبة للتعليم الجامعي.
وشجّع منظّرون رأسماليون الجامعات ليس فقط على تقديم أبحاث من أجل «الهندسة الاجتماعية» في الشركات، بل وعلى تطبيق الإدارة «الجديدة» ضمن الجامعات نفسها أيضاً. فأخذت الجامعات تخضع بشكلٍ متزايد إلى تحليلات أدائها وفق معايير «الجدوى الاقتصادية».
ولكن تبقى المشكلات الأساسية التي لا حلّ لها في إطار الرأسمالية قائمة: دافع الربحية الذي يحكم الشركات الرأسمالية لا يتوافق مع تحقيق الذات الحقيقية للعمال وكثير منهم يدركون هذه الحقيقة. وبالتالي لن يحدث التغيير الجذري التالي قبل أن يتم رفع الحاجات الإنسانية كأولوية فوق الإنتاج من أجل الربح، الأمر الذي يتطلب بالضرورة أن يكون العمال هم من يديرون الإنتاج ويحددون سيره، وأهدافه وطرائقه ويحصلون على ثمار عملهم ويقرّرون كيفية استهلاكها وإعادة الإنتاج وباختصار تقرير مصيرهم الكامل بأنفسهم. أي أنّ ذلك مستحيل في ظل الرأسمالية ولا يبدأ يصبح ممكناً، بالتدريج في البداية، سوى في ظلّ الانتقال عبر الاشتراكية كمرحلة انتقالية، ثم إلى تحقيقه الأعلى في الشيوعية كتشكيلة غير طبقية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1192