غرامشي حول أهمّية تَعَـلُّم وتَعليم «فنّ التفكير»
أنطونيو غرامشي أنطونيو غرامشي

غرامشي حول أهمّية تَعَـلُّم وتَعليم «فنّ التفكير»

يفتتح أنطونيو غرامشي إحدى ملاحظاته في «دفاتر السجن» (الملاحظة 44 من الدفتر 11) باقتباس من كروتشه الذي قال بدوره إنه اقتبسه من إنجلس. فيكتب غرامشي: فلنقارن بشأن موضوع التأكيد الذي ورد في التمهيد لـ«ضدّ دوهرنغ» بأنّ «فنّ العمل مع المفاهيم ليس شيئاً معطى بالولادة أو بالوعي الاعتيادي، بل هو عمل تقنيّ من أعمال الفكر والذي له تاريخ طويل، على القدر نفسه الذي للبحث التجريبي في العلوم الطبيعية». فيما يلي مقتطفات من تعليق ومناقشة غرامشي لهذه الفكرة.

تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

الفكرة كما وردت لدى إنجلس

قبل عرض نصّ غرامشي تجدر الإشارة إلى أنّ غرامشي نفسه نوّه إلى أنه «تنبغي رؤية النص الأصلي لإنجلس من أجل وضع المقتطف في سياقه العام». ولذلك نبدأ بملاحظة إنجلس في سياقها حيث يبدو أنها جاءت مختلفة قليلاً بالصياغة عمّا نقله الفيلسوف المثالي بينيديتو كروتشه. ففي المقطع الأخير من مقدمة الطبعة الثالثة لضدّ دوهرنغ والمؤرّخة في لندن، 23 أيلول (سبتمبر)، 1885. صاغ إنجلس الفكرة كما يلي:
«النقطة الأساسية في الفهم الديالكتيكي للطبيعة هي إدراك أنَّ هذه الأضداد والاختلافات وإنْ كانت موجودة في الطبيعة إلّا أنها تحتوي على مغزىً نسبي فقط، بل إنّ سكونها الموهوم ومدلولها المطلق لم يأتيا إلى الطبيعة إلا من خلال تأمُّلاتنا. ويمكن الوصول إلى الفهم الديالكتيكي للطبيعة لأنّ وقائع العلم الطبيعي المتجمّعة تجبرنا على ذلك؛ ولكن من الممكن الوصول إليه بشكل أسهل إذا تناولنا الطابع الديالكتيكي لهذه الوقائع من خلال إدراك قوانين الفكر الديالكتيكي. وعلى أية حال فلقد تقدّمت العلوم الطبيعية بدرجةٍ أصبحَ معها من المستحيل الاستغناءُ عن التعميم الديالكتيكي. ولكنّها تسهِّل لنفسها تلك العملية إذا لم تنسَ أنَّ النتائج التي تُعمِّمُ فيها ثمارَ خبرتها هي مفاهيم، وأنّ فنَّ استخدام المفاهيم ليس شيئاً فِطرياً ولا يُعطَى مع الوعي العادي اليومي، وإنّما يتطلب تفكيراً فعلياً، له أيضاً تاريخه التجريبي الطويل، بقدر طول تاريخ الدراسة التجريبية للطبيعة. وعندما ينجحُ العِلم الطبيعي في استيعاب النتائج التي تمَّ الحصول عليها بفضل تطوُّر الفلسفة على مدى ألفين وخمسمئة عام، فإنه سيتخلَّص بفضل ذلك بالضبط من كلِّ فلسفةٍ طبيعية خاصة تقف خارجه وفوقه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى سيتخلَّص أيضاً من منهجه الخاص المحدود في التفكير الذي ورثه عن التجريبية الإنكليزية».
بعد هذا يمكننا متابعة قراءة المقتطفات من ملاحظة غرامشي...

غرامشي عن «تقنيّة التفكير»

عندما يقتبس كروتشه [من إنجلس] فإنّه يلاحظ بين قوسين بأنّنا لا نتعامل مع مفهوم «غريب»، بل مع مفهوم قد أصبح سلفاً جزءاً من الفهم المشترك قبل إنجلس. ولكن المسألة، في هذه الحالة ومن أجل هذه المعالجة، ليست مسألة أصالة أو غرابة المفهوم، كثرت أم قلّت، بل تكمن المسألة في أهميته وحالته ضمن منظومة فلسفة الممارسة، وفي رؤية فيما إذا كان يملك ذلك الاعتراف «العمليّ والثقافيّ» تبعاً لذلك. يجب على المرء أن يستخدم هذا المفهوم بوصفة نقطةً مرجعية من أجل فهم ما الذي يقصده إنجلس عندما يكتب بأنه، وبعد جوانب الجِدّة التي جلبتها فلسفة الممارسة، فإنّ ما يتبقى من الفلسفة القديمة، من بين أمور أخرى، هو المنطق الشكلي (الصوريّ).
[ملاحظة المعرّب: يقصد غرامشي هنا ما أورده إنجلس في الفصل الأول من «ضد دوهرنغ» تحت «ملاحظات عامة» ضمن «التمهيد» حيث كتب: «وما إنْ يضع كلُّ عِلمٍ على حدة أمامَه مهمَّةَ إيضاحِ مكانه في الترابط العام للأشياء والمعلومات عن الأشياء، حتى تزولَ الحاجة إلى وجود علم خاص حول ذلك الترابط العام. وحينئذٍ يتبقى من مجموع الفلسفة السابقة الوجودُ المستقل للتعاليم الخاصة بالتفكير وقوانينه أيْ المنطقُ الشكلي والديالكتيك. ويدخلُ الباقي كلُّه في العِلم الإيجابي عن الطبيعة والتاريخ»]
ولكن تشبيه التكنيك الفني بتكنيك الفكر، هو، وبمعنى معيَّن على الأقل، تشبيه سطحيّ وموهوم. فقد يوجدُ فنانٌ ما لا يعرف شيئاً «حق المعرفة» أو «بالتأمل» حيال التطورات التقنية الماضية (فيستعير بسذاجة تقنيته من الحس المشترك/الشائع)، ولكن هذا لا يمكن أن يحصل في مجال العلم الذي لا بد له من التقدّم وهو يتقدّم بالفعل، والذي يرتبط فيه الدفع بالمعرفة قدماً، ارتباطاً وثيقاً بالتطوّرات الأداتيّة والتقنية والمنهجية، ويتطوّر ويكون مشروطاً بها، تماماً كما تُعرَّف العلوم التجريبية بالمعنى الضيّق للكلمة.
حتى عندما يعبَّر عنه بمصطلحات غير صارمة، فإنّ المَطلَب المَنهَجيّ في عبارة إنجلس ينبغي أخذه بعين الاعتبار. وهو يكون ذا صلة وثيقة بالموضوع في أنّ الإشارة الضمنية تجري ليس من أجل المثقفين وما تسمّى الطبقات المتعلِّمة، بل من أجل الجماهير الشعبية غير المثقَّفة، التي يشكِّلُ بالنسبة لها الظَّفرُ بالمنطق الصوريّ، والظَّفرُ بأبسط قواعد التفكير واللغة، مهمّةً لا يزال يتعيّن عليها تحقيقها.
وقد يُثار السؤال حول ما هي المنزلة التي ينبغي على هذه التقنية أنْ تحوزها ضمن ميادين مختلفة من العلم الفلسفي: وبالتحديد، فيما إذا كان ينبغي لها أن تشكّل جزءاً من العلم بالذات، بحالته المتطوّرة، أم جزءاً من الدراسة التحضيرية للعلم، أيْ، جزءاً من عملية بناء العلم بحدّ ذاتها. (بالمثل، لا يستطيع أحد أن ينكر، في الكيمياء، أهمّيةَ وسيط تحفيز التفاعل، لمجرد أنّه لا يبقى منه أيّ أثر باقٍ في النواتج النهائية). إنّ المشكلة نفسها تطرح بالنسبة للديالكتيك أيضاً: إنه طريقة جديدة في التفكير، فلسفةٌ جديدة، ولكنْ، ومن خلال ذلك، هو أيضاً تقنيّةٌ جديدة.
هل يستطيع المرء أنْ يفصل الواقعة التقنية عن تلك الفلسفية؟ لا يمكن للمرء أنْ يفعل ذلك، اللَّهمّ إلّا مِن أجل غايات تعليمية عملية. وفي الواقع ينبغي على المرء أن يلاحظ أهمية كون تقنيّة التفكير تمتلك في إنشائها أصلاً برامج تعليمية. كما أنّ المرء لا يستطيع عقد مقارنة بين تقنية التفكير والخطاب القديم. فهذا الأخير لم يُنتِجْ لا الفنّانين ولا الذائقة، ولا قدّمَ أيّة معايير من أجل تقييم الجمال: لقد اقتصرتْ فائدتُه فقط على خلق «الانصياغ» الثقافي ولغةً للنقاش بين المثقّفين. أمّا تقنيّة التفكير، التي تُطوَّرُ بوصفها كذلك، فإنها بالتأكيد لن تُنتِجَ فلاسفةً عظماء، بل سوف تزوّد الناس بمعايير تمكّنهم من تنفيذ اختبارات تحقّق وصُنعِ أحكام، وسوف تصحِّحُ التشوّهات في طرق التفكير القائمة على الفهم الشائع.
إنّ تفحّصاً يقارِنُ تقنيةَ الفهم الشائع، أيْ فلسفة رجل الشارع، مع تلك التقنية للتفكير المتمعِّن والمتماسِك، سيكون أمراً مفيداً ومثيراً للاهتمام. إنّ كلّ هذه المحاججة تنبغي دراستها بعمق بعد أنْ يتمّ جمع كلّ المواد الممكنة ذات الصلة. إنّ السؤال الذي أثاره البراغماتيون... حول اللغة باعتبارها سبباً للخطأ، يجب أن يُربَط بهذه المحاججة. إنّ مسألة دراسة تقنية التفكير، بوصفها دراسةً تمهيدية، بوصفها عمليّة تطوير تفصيلي، ينبغي العمل عليها بالتفصيل، ولكن يجب على المرء المضيّ قدماً بحذر، لأنّ صورة «الأداة» التقنية قد تقود إلى الوقوع في الخطأ. فجوانبُ التَّماهي بين «التقنية» وبين «الفكر في خضم العمل» أكبر من تلك الموجودة في العلوم التجريبية بين «الأدوات المادية» والعِلم بالمعنى الضيّق للمصطلح. فمن الممكن للمرء أنْ يتصوّر عالِم فَلكٍ لا يعرف كيف يستعمل أدواته (فمواد البحث التي ينبغي أنْ تخضع لمعالجة رياضياتيّة يمكن الحصول عليها من آخرين) ذلك أنّ العلاقة بين «علم الفلك» وبين «الأدوات الفلكية» هي علاقة خارجية وميكانيكية، وفي علم الفلك أيضاً توجد تقنيّة تفكير فوق وأعلى من تقنية الأدوات المادّية. من الممكن أن يكون شاعرٌ ما لا يعرف القراءة والكتابة: وبمعنى معيَّن حتى المفكّر قد يكون تحت تصرفّه كلّ شيء يهمّه موجوداً في أعمال أناسٍ آخرين تُتلَى عليه، أو يُدوَّن له ما فكَّرَ به. ذلك أنّ القراءة والكتابة تشير إلى عملية ذاكرة وهما مساعدتان للذاكرة. أما تقنية التفكير فلا يمكن مقارنتها بهذه العمليات، وبناء على هذا الاعتبار يمكن للمرء أنْ يقول إنّ تعليم هذه التقنية لَهُوَ على قدْر من الأهمية كذاك الذي لأهمّية تعليم القراءة والكتابة، فمن دون الانخراط بهذه الفلسفة، لن يعودَ بكثيرِ جدوى على الشاعر مجرّدُ كونه يعرف القراءة والكتابة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1101
آخر تعديل على الخميس, 22 كانون1/ديسمبر 2022 14:56