حول «الخرق العلمي» الأمريكي بالحصول على 3 ميغاجول من 300 ميغاجول!
في 13 من كانون الأول الجاري 2022 عقد فريق حكومي من 5 مسؤولين من وزارتَي الطاقة والحرب الأمريكيَّتين مؤتمراً صحفياً لإعلان «خرق علمي تاريخي» في مجال طاقة الاندماج النووي، لخّصه مارف آدم نائب مدير البرامج الدفاعية في البنتاغون، وهو يحمل بيده أسطوانة صغيرة بشكلٍ احتفالي، بالقول: إنّ تجربة في 5 ديسمبر الجاري في مختبر «لورانس ليفرمور الوطني» على كبسولة كهذه تحوي وقوداً اندماجياً أجريت؛ بإدخال حوالي 2 ميغاجول من طاقة الليزر لإنتاج حوالي 3 ميغاجول من طاقة «اشتعال الاندماج النووي» ممّا يعني «لأول مرة بالتاريخ الحصول على طاقة ناتجة أكثر من الداخلة». لكن في المؤتمر نفسه كشفت الفيزيائية الأمريكية كيمبرلي سوزان بوديل (Kim Budil)، وهي مديرة المختبر نفسه الذي تمّت فيه التجربة، عن كمية الطاقة الكهربائية المستهلكة لتشغيل التجربة كلّها: «يحتاج الليزر حوالي 300 ميغاجول من الطاقة من الحائط (كهرباء) لتقود إلى 2 ميغاجول من طاقة الليزر، والتي قادت إلى 3 ميغاجول من حاصل الاندماج». وهذا يعني اعترفاً بأنّ «التجربة التاريخية» خسرت 99% من الطاقة المصروفة عليها، والكفاءة الحقيقية لهذه التجربة 1% فقط!
يجدر في البداية التنويه، بأنّ وحدة الجول في الفيزياء هي كمية صغيرة من الطاقة؛ تقدرها بعض المصادر التعليمية بأنها الطاقة اللازمة لرفع تفّاحة لمسافة متر واحد عن الأرض. ولذلك فإنّ «إدخال» 2 ميغاجول و«خَرْج» 3 ميغاجول، وبالتالي «المكسب» بمقدار 1 ميغاجول يساوي أقل من 300 واط ساعة (حوالي 278 واط ساعة) وهي كمية بالكاد تكفي لتشغيل جهاز كهربائي منزلي بين دقائق إلى عدة ساعات (حسب الجهاز).
في المؤتمر الصحفي نفسه، أكدت الفيزيائية كيمبرلي بوديل أيضاً رداً على سؤال أحد الصحفيين، بأنّ الوصول إلى استفادة عملية «تجارية» من طاقة الاندماج ما زال بعيد المنال جداً، وأنّ الموضوع ما زال بالنسبة لهم في طور «الحسابات» و«النظرية» لأنها قالت: «حساباتنا تقترح بأنه من الممكن بواسطة نظام الليزر تحقيق مئات الميغاجولات من الحاصل» [من طاقة الاندماج] «ولذلك فهناك طريق ما إلى هدف ينتج حاصلاً كافياً، ولكننا بعيدون جداً عن الوصول لذلك حالياً» ومشيرة إلى أنّه قد يستغرق أقل من 50 عاماً! كما أنها كرّرت القول: «إذن، 300 ميغاجول من الحائط [كهرباء]، 2 ميغاجول في الليزر...» ثم 3 ميغاجول كحاصل، مصرّة على تسمية هذا «الحاصل» بأنه «كسب بنسبة أكبر من الواحد».
هل هناك «كسب طاقة» أيضاً بإشعال مدفأة المازوت؟
إذا استطعت «بطاقة مدخلة» من عود ثقاب واحد مشتعل إلى مدفأة مازوت الحصول على «طاقة ناتجة أكبر» لأنها تساوي طاقة عشرات، أو حتى مئات عيدان الثقاب عندما تتوهّج نار المدفأة بقوة، فهل هذا «كسب للطاقة»؟ نعم ولا؛ نعم إذا تجاهلتُ الطاقة الكيميائية المختزنة في الروابط الكيميائية ضمن جزيئات المازوت في «طاسة» المدفأة، بل وحتى تجاهلت كمية الطاقة في «نقعة» المازوت الصغيرة الابتدائية التي تجمّعت بأرضية حرّاق المدفأة قبل رمي عود الثقاب عليها. ولكن الأصحّ طبعاً، عدم تجاهل كلّ مدخلات الطاقة بكافة أشكالها لتشغيل عملية معيّنة، وكذلك كلّ مخرجاتها وتحوّلاتها بكافة أشكالها. وعندها سأجد ببساطة أنّه ليس هناك أيّ «كسب» سحريّ بالطاقة، فقانون انحفاظ الطاقة ما زال ساري المفعول بالطبع وسيبقى، ولا يمكن إلّا أن تكون كمية الطاقة الإجمالية الداخلة مساوية تماماً لكمية الطاقة الناتجة (محسوباً معها بالطبع الطاقة المتبدّدة، أو الضياع الطاقي بكلّ أشكاله).
تفاصيل إضافية عن التجربة الأمريكية
قبل الإعلان الرسمي بيومين (أيْ بتاريخ 11-12-2022) صاغت صحيفة فاينانشال تايمز عنوان تقرير لها عن التجربة هو التالي: «خَرق بطاقة الاندماج بواسطة علماء أمريكيين يعزّز الآمال بطاقة نظيفة»، ومما ورد في نصّ التقرير أنّ «علماء الحكومة حققوا اختراقاً في السعي إلى طاقة غير محدودة، صفريّة الكربون، عبر إنجاز كسبٍ صافٍ للطاقة في إشعالٍ اندماجي».
مما يلفت الانتباه في تقرير الصحيفة، أنّه ذكر أرقاماً أوّلية «مُسرَّبة» عن نتائج التجربة قبل الإعلان الرسمي عنها، جاءت مختلفة عمّا أُعلن لاحقاً، فقد نقلت الصحيفة عن «مصادر في المختبر» نفسه بأنّ طاقة الليزر الداخلة كانت 2.1 ميغاجول ولكن الطاقة الناتجة كانت 2.5 ميغاجول (في حين أصبح الرقم قرابة 3 ميغاجول في الإعلان الرسمي بعد يومين). والتغيير بالأرقام يعني رفع نسبة «الكسب بالطاقة» الناتجة من 20% إلى 50% زيادة عن الداخلة.
ما يثير التساؤلات أيضاً حول الملابسات الدقيقة للتجربة، وماذا جرى داخل المخبر، أنّ الفاينانشال تايمز في تقريرها المشار إليه ذكرت ما يلي: «مصادر في المختبر أخبرت صحيفتنا بأنّ البيانات ما تزال في طور المعالجة، ولكن الناتج الطاقيّ من تفاعل الاندماج جاء أكبر مما كان متوقّعاً، وقد أتلفَ بعض المعدّات التشخيصية» (!). فإذا صحّ ما نقلته الصحيفة، فإنّ هذا يثير تساؤلات عمّا إذا كان من بين «المعدّات التشخيصية» التي تلفت أثناء التجربة معدّات لقياس واختبار كمّية الطاقة الناتجة (أو حتى الكمية الداخلة)؟ وما تأثير ذلك على دقّة الأرقام، ولا سيّما أنّ الفريق الحكومي الأمريكي أكّد في مؤتمره الصحفي بأنّ «الحصول على كسب إيجابي بالطاقة» في هذه التجربة حصل لمرة واحدة فقط ،وهي المرّة الوحيدة التي تمّ فيها ذلك، ولم تتم إعادة التجربة بالنتائج الإيجابية المذكورة، رغم أنهم كانوا يجربونها سابقاً عدة مرات، ولكن دون الوصول «للخَرَق» المذكور في التجربة الأخيرة والوحيدة حتى الآن.
وعلّق الفيزيائي غيانلوكا ساري من «جامعة الملكة» في بلفاست (إيرلندا الشمالية) على التجربة بالقول: «ينبغي توخّي الحذر حتى يتم تأكيد التقارير، ولكن في حال كانت صحيحة فإنّها نقطة علّام ضخمة». وأوضح الفيزيائي، أنه من أجل أن يكون المفاعل مفيداً بشكل عام، ينبغي عليه أن ينتج طاقة أكثر من تلك التي تدخل إليه بواسطة الليزر، مشدداً على أنّ «عدم الكفاءة في إنتاج ضوء الليزر من الكهرباء تعني بأنّ هذه الحالة غير محققة حالياً»، وقدّر هذا الفيزيائي بأنّه إذا كانت طاقة الليزر 2.1 ميغاجول فهذا يعني بأنّ «منشأة الإشعال الوطني» (NIF) لا بدّ أنها استجرّت «عشرات» الميغاجولات من الشبكة الكهربائية لتحقيق ذلك. وقد تأكد كلام هذا الفيزيائي في اليوم التالي عندما أقرّت مديرة المخبر الأمريكي، الفيزيائية بوديل، بأنّ التيار الذي استهلكوه في التجربة ليس فقط «عشرات» بل كان 300 ميغاجول، لإنتاج 3 ميغاجول فقط.
ما الأهداف العسكرية والسياسية من التجربة؟
في مقابلة مع الفيزيائي الأمريكي بوب روزنر، من جامعة شيكاغو والمدير السابق لمختبر أرجون الوطني، للتعليق على التجربة، قال: إن الطريقة التي قدمت بها وزارة الطاقة الاختراق في المؤتمر الصحفي الذي قادته وزيرة الطاقة جنيفر غرانهولم، إضافة للتغطية الإخبارية قد حجبت إلى حد كبير أحد أهدافها الأساسية، والمتعلقة بشأن عسكري، وهو «مراقبة مخزون الأسلحة النووية في الولايات المتحدة الأمريكية» حيث أوضح الفيزيائي بأنّ البنتاغون يبحث عن طريقة أرخص تكلفة من إجراء عمليات ميدانية كبيرة للتحقق من صلاحية مخزونه النووي، وبالتالي لجأ إلى أساليب التجارب المختبرية لدراسة إمكانية تطوير تقنيات تحكّم تعوّض عن ذلك. وبدلاً من ذلك، ركزت العديد من المنافذ الإخبارية على «إمكانية توليد الكهرباء دون الكربون وعلى الاندماج» رغم أن التجربة لا تقدم في هذا المجال سوى طرف خيط ممكن، ولكن بعيد المنال جداً في أفضل الأحوال.
كما لا تخفى الأهداف السياسية من خلال تصريحات الفريق الحكومي بالمؤتمر الصحفي، التي ربطت الإنجاز بإدارة بايدن وبإظهار الأهمية العسكرية لها وسط التحديات من روسيا والصين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1102