العقوبات على العِـلم مِن كارثة إلى فرصة (إيران نموذجاً)

العقوبات على العِـلم مِن كارثة إلى فرصة (إيران نموذجاً)

كانت العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وأوروبا والأمم المتحدة على إيران، هي المشكلة السياسية والاقتصادية الأكثر تحدياً لها على مدار العقود الأربعة الماضية. وأثرت بشكل كبير على التطور التكنولوجي والعلمي للبلاد، بشكل مزدوج: فلا شك بتأثيرها السلبي من جهة. لكن أيضاً لاقت ردّ فعل إيجابي بتطوير إيران لاعتمادها على الذات وإيجاد بدائل، بفضل وجود مستوى معيَّن من سياسات وطنية مسؤولة تَرجَمت اتجاهاً لرفض التبعية، ليس بالشعارات الفارغة التي تتناسب عادةً بشكل طردي مع مستوى الفساد الكبير في النماذج الفاشلة، بل بالإرادة والعمل والتخطيط والدعم غير الخلَّبي للابتكار.

حسين فخاري
ترجمة وإعداد: فيديل قره باغي

لتوضيح الآثار الإيجابية للعقوبات على التطور التكنولوجي لإيران، نذكر الأمثلة التالية:

بسبب العقوبات، حققت إيران إنجازات تقنية كبيرة في إنتاج المصنوعات الخاضعة للعقوبات مثل: الأجزاء الخاصة لأفران مصانع الصلب الطويلة، وألواح الفولاذ المسبوك التخصصية المستخدمة في إنتاج الخزانات عالية الضغط، والتكنولوجيا الصناعية فرط الصوتية، والمجففات الحرارية المتطورة.
علاوة عن ذلك، أدت العقوبات بشكل مباشر إلى تصنيع اثنين من منتوجات جديدة من البولي بروبيلين، ومُنتَجاً جديداً من البولي إيثيلين الثقيل في صناعة البتروكيماويات، وإنتاج بعض الأدوية، وإنتاج المجهر الإلكتروني الذري، والتقدم التكنولوجي الواسع في الصناعة النووية. ربما لم تكن هذه الأمثلة لتحدث في غياب نظام العقوبات.

كمثال آخر على حافز النمو التكنولوجي الناتج عن العقوبات: عندما رفضت شركة كيميائية ألمانية كبيرة توفير محلول مُخفِّف لعملائها الإيرانيين بسبب العقوبات، تمكنت شركة «نيكو باك» الإيرانية من إنتاج المحلول نفسه محلياً. كما أنّ نجاح وازدهار منتوجات شركة «تاك سيليكات» بصفتها المنتج الوحيد للسيليكات المركبة في إيران يعود أيضاً إلى العقوبات.

بالتوازي مع العقوبات الاقتصادية المتزايدة باستمرار، تقدمت المعرفة التقنية النووية في إيران. وبحسب تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية التابعة للأمم المتحدة، فإن قدرة إيران التكنولوجية النووية قبل فرض العقوبات كانت مقتصرة على منشأة تخصيب واحدة، وعدد محدود من أجهزة الطرد المركزي ذات القدرة على تخصيب سادس فلوريد اليورانيوم، بنسبة تصل إلى 3,5%. أما مع تزايد العقوبات، فقد زادت قدرة إيران على التخصيب النووي إلى أكثر من 10,000 جهاز طرد مركزي، وبنسبة تخصيب تصل إلى 20%. وعليه، نستنتج أن نظام العقوبات فشل في تحقيق هدفه المعلن بوقف قدرة التخصيب الإيرانية، بل بالعكس حفّز زيادتها.

في الواقع، هناك سوابق تاريخية أثبتت أنه بشرط وجود تخطيط وطني صحيح ومسؤول، يمكن للعقوبات الخارجية ومنع استيراد منتجات التكنولوجيا الفائقة، أن تؤدي إلى التطور والنمو السريع لشركات وطنية تعمل بهذه التكنولوجيا. حدثت مثل هذه الفرص في الصين عام 1989 وفي الهند عام 1998.

مثال آخر على الجهود الإيرانية لمواجهة قرار الكونغرس الأمريكي، الذي حظر على أية شركة في العالَم تصدير البنزين إلى إيران، هو أنّ إيران تمكنت بالفعل من إنتاج البنزين في عام 2010، بجهود الكيميائيين والمهندسين بالشركة الوطنية للبتروكيماويات التابعة لوزارة النفط. وبذلك تم توفير البنزين المطلوب للبلاد والاستقلال التام عن الموَرِّدين الأجانب للبنزين.

من التأثيرات السلبية للعقوبات

رغم أنّ القيود المفروضة على واردات الأدوات والمعدات المتخصصة للمختبرات العلمية والتطبيقات الصناعية، وكذلك قيود استيراد المدخلات الوسيطة، تميل إلى تأثير إيجابي محفّز للتعلم التكنولوجي والابتكار، ولكن هذا غالباً يكون على المدى الطويل (بالنسبة لتلك البدائل التي لم يتم التحضير والاستعداد لها مسبقاً قبل الحصار)، ومع ذلك فإنه على المدى القصير أدى إلى اعتماد إيران على الوسطاء الدوليين، والوقوع تحت رحمة ارتفاع تكاليف شراء هذه العناصر عالية التقنية، كما أطال الوقت اللازم للحصول عليها. على سبيل المثال: منعت العقوبات شركات صناعة السيارات الإيرانية، التي تستخدم قطع غيار السيارات المستوردة لتجميع السيارات في إيران، من المرور عبر الوسطاء في الأسواق الدولية. وبناءً عليه، ازدادت تكلفة إنتاج السيارات وتباطأ تصنيعها.

تعتبر مشكلات صناعة الصلب الإيرانية في استيراد المدخلات الوسيطة المطلوبة من الخارج مثالاً آخر على الصعوبات التي خلقتها العقوبات لإيران. تواجه شركة «مجمع مبارك» للصلب، وهي المنتج الأكبر للصلب في البلاد، العديد من الصعوبات في شراء المواد غير القابلة للاحتراق، والتي تستخدم كمدخلات وسيطة في مصانع الصلب. كما واجهت «شركة أصفهان للصلب»، أكبر منتج لمنتجات الفولاذ الإنشائي في إيران، العديد من الصعوبات في استيراد مدخلات المواد الخام الأولية من أستراليا. هذا فضلاً عن التأثير السلبي على مستهلكي الصلب في الصناعات التحويلية.

لقد خلقت العقوبات أكثر الصعوبات تحدياً لنظام المدفوعات الإيراني والدولي أيضاً. فالعديد من البنوك التجارية في إيران غير قادرة على فتح اعتمادات للتجارة الدولية، مما تسبب في العديد من المشكلات لمستوردي المواد الخام والسلع الوسيطة والرأسمالية في البلاد. ومع ذلك، استخدمت الصناعات الإيرانية تُجّار العملات الأجنبية والشركات الأجنبية لتحويل الأموال إلى مورِّديها في الخارج. ورغم أنّ طريقة التحويل الالتفافية هذه حظيت بشعبية كبيرة في آسيا والشرق الأوسط، ولكنها تبقى طبعاً أقل كفاءة وسرعة من الطرق المباشرة للتحويل التي فُرِضَت عليها عقوبات.

995-i3

المقياس العِلمي لـ«الصمود»

شكّلت أداة القياس التحليلية المعروضة بالشكل المرفق هنا، إحدى أهم الأفكار الواردة في الفصل الذي ألّفه حسين فخاري. وفيما يلي نلخّص شرحه (باختصار وبتصرّف):

يمثل المحور الرأسي للرسم البياني «معامل التبعية الاقتصادية»، أي: درجة اعتماد البلد المدروس على البلدان الأجنبية. ويُقاس مُعامل التبعية وفقاً لحجم وأنواع السلع المستوردة إلى البلد الخاضع للعقوبات. ويتم تحديده حسب حجم السلع الأساسية المستوردة، والمنتجات الأولية، وأجزاء تجميع المنتجات النهائية بواسطة الصناعات المحلية، والتكنولوجيا المطلوبة، وأنظمة المعلومات وغيرها. أما المحور الأفقي فيمثل «معدل التجديد الفعال» (التجارة)، بما في ذلك حصة البلد المعني في تصدير بضائع وخدمات معينة إلى السوق العالمية، ولا سيّما البضائع الإستراتيجية، ذات الطلب المرتفع، والتي ينتجها عدد قليل فقط من البلدان، ولها تأثير ملحوظ على الاقتصادات الأخرى.

يمثل المحور الثالث (المائل قُطرياً) احتمال نجاح العقوبات مصنفةً وفق أربع مناطق خطورة: اعتباراً من المنطقة رقم 1 حيث تمثل أسوأ وضع للبلاد الهشة تجاه العقوبات بسبب المستوى العالي لتبعيّتها للخارج، ونشاطها وأدائها الاقتصادي والتجاري الضعيف، ومستوى الفساد الكبير العالي فيها. مروراً بالمنطقتين 2 و3 الأفضل قليلاً، ووصولاً إلى المنطقة الأكثر أماناً نسبياً (رقم 4) حيث لا تُصنَّف فيها سوى البلاد الأكثر سيادةً واستقلاليةً واكتفاءً ذاتياً، المتمتعة باقتصاد وطني قوي، وبالتالي الأكثر قدرة على الصمود بوجه العقوبات.


حسين فخاري: عضو «المؤسسة الوطنية للنُّخَب»، وجمعية المخترعين في إيران. مهندس ميكانيك، وماجستير إدارة أعمال. مؤسس ومشارك في إدارة 7 شركات تكنولوجية طوَّرَتْ أكثر من 10 منتوجات عالية التقنية تُنتَج لأوّل مرة في إيران. وتم إعداد النص كمختارات من الفصل 14 الذي كتَبه فخاري ضمن كتاب متعدد المؤلفين بعنوان: «تطوير العلم والتكنولوجيا في إيران»، بتحرير عبدول الصوفي ومهدي غودارزي، وصَدَر عن دار نشر «بالغراف- ماكميلان» الأمريكية عام 2017.

معلومات إضافية

العدد رقم:
995