الرأسمالية الموبوءة والحاجة إلى نظرية ماركسية للتضخُّم (1)

الرأسمالية الموبوءة والحاجة إلى نظرية ماركسية للتضخُّم (1)

هل سيرتفع التضخم بمجرد أن يتم تخفيف عمليات الإغلاق المتعلقة بالوباء؟ علماء الاقتصاد البرجوازي السائد (بمدارسه، مثل: الكينزية، والنظرية الكمية للنقود وغيرها..) ليس لديهم جواب. كان معدل التضخم في أسعار البضائع والخدمات في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى ينخفض كنزعةٍ عامة منذ الثمانينات، رغم محاولات البنوك المركزية تعزيزَ المعروض النقدي من أجل تحفيز الطلب، والوصول إلى تضخمٍ مُستَهدَف معيَّن (بالعادة حوالي 2% سنوياً). وقبل اندلاع جائحة كوفيد19، كانت معدلات التضخم أقل بكثير من هذا الهدف. ولم تكن السياسة النقدية تعمل للحفاظ على معدل تضخم معتدل، بل كان النقد/الائتمان يتدفق إلى الأصول المالية والممتلكات رافعاً أسعارها إلى مستويات قياسية جديدة. خلال الوباء انخفض العرض بمقدار غير مسبوق، ولكن الطلب انخفض أيضاً. أهمية معدّل التضخم تتعلق بالصراع الطبقي؛ فالعمال لا يريدون ارتفاع أسعار ما يستهلكونه من بضائع وخدمات أسرع من أجورهم، وبالمقابل، لا تريد الشركات انهيار الأسعار وتقليص الأرباح لدرجة إيقاف الإنتاج أو الإفلاس.

مايكل روبرتس
تعريب وإعداد: د. أسامة دليقان

اقتصاديّو البرجوازية و«القرد على الكيبورد»

ماذا سيحدث إذا انتعشت الأعمال بعد الوباء؟ هل سيبدأ الانكماش مع انهيار الشركات أم سيظهر تضخم مفرط بسبب الكم الهائل من الطلب «المكبوت» المدعوم بالائتمان المستوحى من البنوك المركزية، والذي لا يمكن تلبيته عن طريق العرض؟

كما قلتُ، تيار الاقتصاد السائد ليس لديه جواب. وكما قال وولفغانغ مونشاو في صحيفة الفاينانشال تايمز: «محافظو البنوك المركزية لا يفهمون حقاً كيف يعمل التضخم. هناك الكثير من النظريات والمقاربات الإحصائية، لكن لم يكن أيّ منها قادراً على شرح ما يجري في العالم الحقيقي باستمرار. في حالة البنك المركزي الأوروبي، فإن أفضل ما يرمز إلى هذا الافتقار إلى الفهم هو الفشل الكوميدي تقريباً لتوقعات التضخم. أخطأت التوقعات بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن التضخم سيعود في النهاية إلى هدف الـ 2%. كان من الممكن هنا أن تتفوَّق آلةٌ لتوليد الأرقام العشوائية، أو قردٌ مع لوحة مفاتيح، أو حتى توقّعات الأبراج، على أداء البنك المركزي الأوروبي... إننا لا نعرف بالضبط نوع الفترة التي نخوض غمارها».

«النظرية النقدية الكمية» للتضخم

السبب في تعثر التيار السائد، هو النقائص في نظريتيه الرئيستين لحساب التضخم في الاقتصاد الرأسمالي. فأولاهُما: تنطلق من طرف الطلب في معادلة السعر. يتم توفير الطلب من النقود الموجودة في جيوبنا أو حساباتنا المصرفية، وهذه هي النظرية النقدية للتضخم القائمة على أساس النظرية الكمية للنقود. ولها الصيغة أو المعادلة البسيطة التالية:MV = PT حيث ترمز M إلى كمية النقد money وترمز V إلى معدل تداول النقود أي: سرعتها velocity، وترمز P إلى أسعار البضائع والخدمات prices، وترمز T إلى عدد الصفقات transactions في السوق.

وتنطلق حجتهم، كما هو حال أشهر أنصار النظرية الحديثين، ميلتون فريدمان، من أنَّ «التضخم هو دائماً وفي كل مكان ظاهرة نقدية» (فريدمان، أسباب التضخم وعواقبه، 1963). إذا تم تجاهل V وT للحظة، والتركيز على الأسعار P وكمية النقود M ينتج أنه إذا ارتفعت كمية النقود سترتفع الأسعار والعكس صحيح. أو يمكن القول: إذا ارتفعت كمية النقود بشكل أسرع من إنتاج البضائع والخدمات (الناتج المحلي الإجمالي الاسمي) فسوف يحدث تضخم.

أول ما يمكن قوله ضد هذه النظرية البسيطة، هو أن الصيغة تشمل أيضاً V وT وإذا انخفضت سرعة النقود بشكل حاد، وانخفضت المُعامَلات بشكل كبير، فقد يؤدي ذلك إلى معاكسة تأثير أيّة زيادة في المعروض النقدي. وهذا ما يحدث بالفعل عندما تتباطأ الاقتصادات بشكل حاد، ولا سيّما في فترات الركود. لذلك يمكن أن تعمل وتيرة الصفقات على إبطاء أو معاكسة أيِّ ارتفاع في المعروض النقدي. وهذا ما يحدث الآن. ففي عام 2020، قفز نمو المعروض النقدي إلى أكثر من 25% على أساس سنوي، لكن التضخم في معظم البلدان ظل أقل بكثير من 2% سنوياً. لقد تباطأت سرعة النقد بشكل حاد منذ نهاية الركود العظيم (2008) وتباطأت بعمق الآن خلال الوباء.

والدليل التاريخي أيضاً يقف ضد النظرية القائلة بأن ما يحرّك التضخم هو كمية النقود. كبداية، كان تحليل فريدمان وشوارتز التجريبي لمعروض النقود ونمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في فترة الكساد الكبير في الثلاثينات مليئاً بالأخطاء والافتراضات «البطولية». وإذا نظرنا إلى تضخم أسعار المستهلك على مدى الثلاثين عاماً الماضية (أنا أستخدم بيانات الولايات المتحدة هنا، ولكنها تنطبق أيضاً على الاقتصادات الرئيسة الأخرى) فإن المعدل يتجه نحو الانخفاض، ومع ذلك فإن نمو المعروض النقدي كان مستقراً أو يرتفع. بين عامي 1993 و2019، ارتفع عرض النقود M2 بمعدل متوسط قدره 6,7% سنوياً، لكن تضخم مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 2,3% فقط. ومنذ الركود الكبير في عام 2008، تسارع نمو المعروض النقدي إلى 9,6% سنوياً، حيث طبّقت البنوك المركزية «التيسير الكمي»، لكن التضخم بمؤشر أسعار المستهلكين تباطأ إلى 1,8% سنوياً.

«الكينزية» قاصرة أيضاً

النظرية السائدة الأخرى هي الكينزية. وأنصارها ينطلقون هذه المرة من طرف العرض في معادلة السعر. وبالتالي يعتبرون تضخم الأسعار ناجماً عن ارتفاع أسعار المواد الخام وارتفاع الأجور. وطالما كان هناك «ركود» في الاقتصاد (نقص في الطلب)، فيمكن عندئذ تشغيل المزيد من العاطلين عن العمل، ويمكن الاستفادة من السعة غير المستخدمة في المصانع والمخزونات، ولن يرتفع التضخم. ولكن إذا كان هناك توظيف كامل، فلا يمكن زيادة العرض ويمكن للعمال رفع الأجور، مما يجبر الشركات على رفع الأسعار، والدخول في دوامة من التسابق بين الأسعار والأجور. إذاً، هناك تسويةٌ ما بين مستوى البطالة والأسعار، ويمكن تمييزها في منحنٍ يطلق عليه اسم «منحني فيليبس».

تتعارض الأدلة التاريخية مع منحنى فيليبس كتفسير لدرجة التضخم. في السبعينات، وصل تضخم الأسعار إلى أعلى مستوياته بعد الحرب، لكن النمو الاقتصادي تباطأ وارتفعت البطالة. شهدت معظم الاقتصادات الكبرى «ركوداً تضخمياً». ومنذ نهاية الركود العظيم (2008)، انخفضت معدلات البطالة في الاقتصادات الكبرى إلى أدنى مستوياتها بعد الحرب، لكن التضخم تباطأ أيضاً إلى أدنى مستوياته، وتسطَّح منحنى فيليبس لدرجة الانعدام.

لذلك فإن التيار السائد في حيرة. على سبيل المثال، علق عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي بينوا كوري مؤخراً، أنَّ «الاقتصاد يتخبط بالفعل في صراعه مع نظرية التضخم». وعلّقت جانيت يلين، الرئيسة السابقة للفيدرالي الأمريكي: «إطار عملنا لفهم ديناميات التضخم قد يكون عديم التحديد بطريقة جوهرية».

جواب التيار السائد على ما إذا كان التضخم سيعود مع إنهاء الإغلاقات الوبائية وبدء نوع من الانتعاش هو: «لا نعرف، ولكن ربما في مرحلة ما». فهل يستطيع الاقتصاد السياسي الماركسي أن يقدم نظرية تضخّم بديلة وأكثر فاعلية؟ هذا ما سوف أناقشه في الجزء الثاني من هذه المادة.

  • مايكل روبرتس Michael Roberts: باحث اقتصادي ماركسي، من بريطانيا. ومَصدَر هذه المادة هو منشور روبرتس على جزأين (الأول 17 آب، والثاني 21 آب 2020) في مدوّنته «الركود التالي» التي يُعرِّفُ فيها عن نفسه بأنه: «خبير اقتصادي في لندن لأكثر من 40 عاماً. ومراقِبٌ عن كثب لمكائد الرأسمالية العالمية من داخل عرين التنين. منذ تقاعده، ألّف عدة كتب: (الركود العظيم من وجهة نظر ماركسية 2009)، (الكساد الطويل 2016)، (ماركس 200: مراجعة لاقتصاد ماركس 2018)، وبالاشتراك مع غولييلمو كاركيدي Guglielmo Carchedi حرّر عام 2018 كتاب (العالَم في أزمة). نشر العديد من الأوراق في مجلات اقتصادية أكاديمية مختلفة ومقالات في منشورات يسارية». ومن أحدث كتبه (إنجلس 200: مساهمته في الاقتصاد السياسي) الصادر في تشرين الأول 2020.

(الجزء الثاني من المقال)

معلومات إضافية

العدد رقم:
996
آخر تعديل على الأحد, 27 كانون1/ديسمبر 2020 14:58