الجزء الأول من بحث من خمسة أجزاء تم نشره مؤخراً.. العقد الأخير في تاريخ سورية: جدلية الجمود والإصلاح
اندلعت في سورية منذ شباط / فبراير2011، اعتصامات وتجمعات، بعضها منظّم بطرائق عمل الشباب، كالاتصال المباشر ومواقع التواصل الاجتماعي الالكترونية، وبعضها «تجمهري» عفوي. وقد جرت هذه الأحداث في المدن «المئة الفية» الصغيرة، وفي بعض مراكز المدن الكبيرة في المنطقتين الوسطى والساحلية، بينما بقيت المدن «المليونية» الكبرى بمنأى عنها تقريباً الأمر الذي جعل انتشارها الأكبر يقع في المدن الصغيرة والمتوسطة «الطرفية» و«المهمّشة». وقد حدثت فصولها الأعنف في المدن الـ«طرفية» ولاسيما في درعا ثم في دوما، والتي تعاني في مجملها، ولاسيما درعا وريف دمشق، التهميش المتعدد الأبعاد، وتعسّف السلطات المحلية وسلطاتها «الكبيرة» الاعتباطية غالباً، ومحدودية تساقط آثار عملية النموّ الاقتصادي عليها، وتدنّي مؤشّرات تنميتها البشرية، وانتشار البطالة والفقر، وارتفاع أعباء الإعالة العمرية والاقتصادية فيها، لكن ما يجمعها إلى حركات الشباب في مدينة دمشق هو أنّ قوامها البشري ينتمي إلى الشريحة العمرية الشابة بتعريفها النمطي (15-24 سنة) أو الموسع (15-35 سنة) التي تعتبر أكثر الفئات حساسيةً وقابليةً للمبادرة، والتي تنتشر في صفوفها أعلى معدلات البطالة، كما ينتمي قسم منها إلى شريحة شابة عصرية متفاعلة مع «رياح الثورات» في البلدان العربية الأخرى.
درعا.. مقدمات موضوعية للحدث المتفجر
انطلقت الأحداث الأخيرة التي تشهدها سورية من مدينة درعا التي يحتلّ فيها ارتفاع معدّل النموّ السكاني المرتبة الثانية على المستوى الوطني، وهو ما يفسّر ارتفاع الكثافة السكانية في مجالاتها المعمورة إلى نحو300 نسمة/كم2، وارتفاع الضّغوط العمرانية على مورد الأرض، حيث أنّ مساحة المجال المعمور فيها تشكّل نحو 79% من إجمالي مساحتها. وتبلغ الضغوط السكانية والعمرانية ذروتها في مدينة درعا باعتبارها المركز المتروبوليتاني لظهيرها، وتمتصّ جزءاً كبيراً من الهجرة الداخلية المتدفقة إليها من قرى ذلك الظهير، وهو ما يفسّر ارتفاع معدل نمو عشوائياتها، واحتلالها مساحةً لا تقل عن12% من إجمالي مساحتها العامة. وارتفاع وتيرة الحراك الاجتماعي فيها، بما هو بحسب كارل دويتش، حالة اجتماعية تتسم بتزايد الحركية الجغرافية (الهجرة الداخلية)، والمهنية، وسرعة تواصل الأفكار وانتشارها وكثافة الاتصالات.
وتشبه مؤشرات التنمية البشرية فيها المؤشرات المتدنية و«المقلقة» في المناطق الشرقية (الرقة، دير الزور، الحسكة، ويضاف إليها ريف حلب الشرقي). وجراء ضمور المشاريع التنموية العامة والخاصة فإن درعا تندرج في عداد المحافظات الأكثر تصديراً للهجرة الطويلة والدائرية بسبب ضعف مردودية الإنتاج الزراعي للمساحات الصغيرة والمتناهية في الصغر والمتذرّرة نتيجة الإرث. وبسبب تراجع هذا الإنتاج بعد ردم الآبار الجوفية (المخالفة)، وارتفاع التكلفة بعد رفع أسعار المازوت وتحريرها، فإنّ معدّل البطالة مرتفع فيها، وليس هناك إمكان لتصريف قوة العمل المتنامية إلاّ بالهجرة الداخلية أو الخارجية. ويغذّي ذلك ارتفاع نسبة المتسربين من التعليم الأساسي إلى 4%، بينما معدله الوطني الوسطي هو 2،8%. وهؤلاء ينضمون إلى أفواج الباحثين عن عمل، وغالباً ما يعملون في القطاع غير المنظم. ويفاقم تلك المشكلات التسرب المبكّر للإناث من التعليم الأساسي وزواجهن المبكر، حيث يتزوج ما لا يقل عن 30% من الإناث ما قبل الثامنة عشرة، مقابل 11% على المستوى الوطني، وهو ما يرفع تلقائياً معدّل خصوبة المرأة الكلية والزواجية معاً. وتتضافر هذه الآثار برمتها مع قوة النسيج الاجتماعي التضامني الذي يشكّل على مستوى وظيفته حمايةً نسبيةً من الضعف والتهميش وفقدان الأمان الاجتماعي.
وعلى الرغم من أن مجتمع درعا متحضر تاريخياً، وفوق ذلك شديد «التمدين»، وأن عملية التمدين المتسارعة فكّكت الروابط العشائرية التقليدية «الحضرية»، فإن هذه الروابط ما زالت تحتفظ في «الملمّات» بقوتها على نحوٍ ما، وبقدراتها على التعبئة والاصطفاف. و توفّر هذه الروابط لبنيها لحمةً اجتماعية تضامنية. وبذلك تتجسم درعا كمجتمع متأخر في مؤشرات تنميته البشرية، ومحدودٍ في مصادر نموّه من جهةٍ، وبارتفاع معدل البطالة فيه، ولاسيما في شريحة الشباب، وكذلك بارتفاع معدل إعالة الفرد، في شروط ضيق أبواب الهجرة التي كانت تمثل متنفساً كلاسيكياً للأزمات. ووفق التقسيم النوعي للأقاليم السورية على مستوى مؤشرات التنمية البشرية، وتبعاً لذلك على مستوى الفقر، فإنّ درعا تقع في نطاق المناطق الشرقية والريفية الشمالية، وتشكّل جزءاً من قصة مرارة التنمية فيها وتعثّرها. ويترافق ارتفاع معدّلات الفقر والبطالة فيها، وضعف شبكة الضّمان الاجتماعي، مع هشاشة العمل الجمعياتي الخيري والتنموي والدّفاعي على المستويين الكميّ والنوعي، ففي محافظة درعا كلّها لا توجد إلاّ عشر جمعيات فقط لها بعض الفروع، بينما تفترض عملية التنمية وتدابير التحرير الاقتصادي تفعيل دور القطاع الجمعياتي في عملية التنمية، وتخفيف الآثار السلبية لعملية التحول إلى اقتصاد السوق، والتعويض نسبياً عن هشاشة شبكة الضّمان الاجتماعي.
دور الشباب
وعلى غرار ما حدث ويحدث في البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، فإن الشباب شكّلوا عماد هذه الأحداث والتجمعات. ولقد بدأت هذه الأحداث بشكل سلمي طارحةً مطالبَ ديمقراطية في حالة اعتصامات الشباب العصري، أو جامعةً مطالب تنموية وديمقراطية، وطنية ومحلية، وهو ما عبّر عنه رمزياً شعار «حريّة»، بينما كان بعض هذه المطالب ثقافياً محافظاً. ولكن التظاهرات كلها كانت تُجمِع على الحرية. ثم أخذت هذه الحركة تتسارع بوتائر «دراميةٍ» داميةٍ ومفجعةٍ كاشفةً عن حجم «الاحتقان» العام المتراكم و«المكبوت» والمتفجّر الآن، والمنفتح على احتمالاتٍ شتّى قد تنوس بين المخرج الوطني التوحيدي نحو التحول الديمقراطي، والإصلاح المؤسسي الاقتصادي والسياسي والاجتماعي الشامل، والتمزق الاثني الأقوامي والطائفي، وفي مستوى معيّن من تطور الأحداث ربما يتدخّل لاعبون خارجيون في مجرى التطورات بشكل مباشرٍ أو غير مباشر لتحقيق أهداف أخـرى لا صلة لها بتطلعات حركات الشباب إلى الديمقراطية والتنمية، وقد تتصل بتصفية حساباتٍ جيو- سياسيةٍ مع النظام السياسي السوري، ودوره الإقليمي، واحتمالاتٍ أخرى غير مرصودة الآن، بسبب اتّساع مساحة عدم «التيقن» منها. علاوة على حصة «المفاجآت» في مثل هذه الحالات.
«قوس الأزمات»
الواقع أنّ مؤشرات دخول سورية إلى ما يمكن تسميته «قوس الأزمات» قد بدأت بشكلٍ متفرقٍ وجزئي ما بين 2001 و 2004، من خلال الصدامات بين بدو السويداء وحضرها التي ظلّت تغطي معظم سنوات النصف الأول من القرن العشرين، وصدامات بين إسماعيليّين وعلويّين ظلّت تستعاد أحداثها على طريقة «المعاد» في اللاّ شعور الجمعي ومدّخراته التقليدية الموروثة في صورة صراعات مذهبية- طوائفية قديمة كامنة، وبين عرب وأكراد في مدينة القامشلي التي تتّسم بارتفاع حدّة التوتر الاثني- الأقوامي. وكان أبرز هذه «الأزمات» وأكثرها حدّةً أحداث آذار/ مارس 2004 في القامشلي. وتكمن عوامل ما حدث في القامشلي في طائفةٍ متعددةٍ ومختلفةٍ من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإثنية والسياسية. غير أن تلك الأحداث عبّرت، على المستوى الظاهر، عمّا يمكن وصفه تساقط «الآثار» الجيو- بوليتيكية لعملية احتلال العراق في الفضاء الاجتماعي السوري الذي يتّسم تاريخياً ببنيته الإثنية والثقافية التعددية. يقابل ذلك بروز بعض مظاهر الاحتجاج المدنية السلمية الجديدة في سورية في فترة ما بين 2001 و2004، كاعتصام عمّال بسبب تأخر رواتبهم، واحتشاد سائقي تاكسي الخدمة العامّة أمام مبنى أحد المحافظين احتجاجاً على قرارات «إدارية» «مجحفة» بمصالحهم، واصطفاف بعض سكان العشوائيات في مواجهة محاولة إزالة بعض المخالفات أو المنازل. واقتصرت الظاهرة الحديثة في التجمّع على حشود الشباب وناشطي اللجان الديمقراطية الجديدة، وبعض ناشطي أحزاب المعارضة «الديموقراطية» حول مباني المحاكم إبان جلسات محاكمة بعض الناشطين.
يمكن أن تفسّر نظرية «تساقط الآثار» بعض عوامل الأحداث التي تشهدها سورية، لكن لهذه النظرية حدودها في التفسير، وكذلك محاذيرها في التعميم. إذ لا يمكن أن تتساقط الآثار من دون سياق داخلي يقبلها ويتفاعل معها. فضلاً عن أنّ نظرية «تساقط الآثار» يجب أن تلحظ تشابه النظم الاقتصادية - الاجتماعية- السياسية التسلطية العربية الذي يضفي على تلك الآثار تساقطها بل وتشابهها في بعض الأحيان. ويعني ذلك أن تساقط الآثار لا يعدو كونه من قبيل تحفيز التشابهات القائمة.
والواقع أنّ البلدان العربية كافة تواجه احتمال وقوع أحداث تحاكي المشهد التونسي وما تلاه لأسباب متعددة. فقد دخلت معظم هذه البلدان في ما تطلق عليه دراسات السكان والتنمية مرحلة «انفتاح النافذة الديموغرافية» التي يرتفع فيها، على مستوى العرض الديموغرافي، معدل نمو حجم السكان في قوة العمل (15- 65 سنة) بأعلى من معدل النمو السكاني، ومن معدل نمو الشرائح العمرية الأخرى الطفلية والمسنةّ. بينما يتسم العرض الاقتصادي بمحدوديته في استيعاب هذه القوّة المتنامية، وهو ما يولّد التوتّر بين العرض الديموغرافي الكبير والطلب الاقتصادي المحدود، ويؤدّي ببساطة إلى ارتفاع معدّل البطالة والتهميش الاقتصادي- الاجتماعي. وهذه الزيادة السنوية الكبيرة في قوة العمل يمكن أن تتحوّل إلى «هبةٍ» أو «نعمةٍ» ترفع معدلات النمو الاقتصادي أو إلى «نقمةٍ» في حال ضيق الطلب، وضعف توفير فرص العمل.فالنافذة الديموغرافية يمكن أن تنفتح على «بستان أخضر» أو «أرضٍ بور».
بهذا الشكل يكون المشهد التونسي مشهداً كامناً في أيّ بلدٍ من البلدان العربية. وما يجمع، إضافةً إلى ذلك، بين أسباب الثورات والتوترات الاجتماعية- السياسية المندلعة في أكثر من بلدٍ عربي هو نمط التنمية التسلطي في نظمٍ بوليسيةٍ أو نصف بوليسيةٍ، والذي أفضى نمطياً إلى تساقط ثمار النمو في سلّة «رأسمالية الحبايب والقرايب»، وتشويه التحرير الاقتصادي (اللبرلة) واستبداله بـ«احتكار القلّة»، وتكوين «منافسة احتكارية» في مكان السوق الحقيقية من جهةٍ أولى، وسيادة البنى التسلطية- الأمنية في العلاقة بين الدولة والمجتمع بدلاً من سيادة بنى القانون من جهةٍ ثانيةٍ، وانكماش الطلب الاقتصادي مقارنة باتساع عرض قوة العمل ومحدودية الطلب، ولذلك نتيجة واحدة هي البطالة وعقابيلها من جهةٍ ثالثةٍ، وتشوهات تساقط آثار التنمية على الأقاليم، وخلق فجواتٍ بين شمال وجنوب في داخل التشكيلة الوطنية الواحدة من جهةٍ رابعةٍ.
بين النمو الاقتصادي والتنمية
تشترك سورية مع الدول العربية كافة في هذه الخصائص، وبالتالي ليس هناك معنى جوهري للتميزات غير الاعتيادية. ولفهم العوامل الداخلية العميقة التي تكمن خلف هذه الأحداث، لا بدّ من العودة إلى جذور هذه العوامل، ومقاربة كيفية اشتغال دينامياتها، وتطور مؤشراتها ومظاهرها. وتشكل المقاربة التنموية بمعناها المركّب الذي يربط النمو بالتنمية، ويتخطى حدود المقاربة «الاقتصادويّة» الضيّقة إحدى أهم المقاربات التي تسمح بفهم هذه العوامل على مدى سلسلةٍ زمنيةٍ طويلةٍ نسبياً، وتقدير مشاهدها الاحتمالية. وتتطلب طبيعة علم الاقتصاد نفسه تجاوز تلك المقاربات «الاقتصادوية». فعلى الرغم من اجتياح النزعة «الكميّة» هذا العلم في سياق اجتياحها العلوم الاجتماعية والإنسانية، فإن علم الاقتصاد، كما يعرف كثيرون، لا يقتصر على التحليل الوضعي المحايد بل لا بدّ أن يشمل الجانب القيمي المعياري (normative) الذي يعتمد في فهم طبيعة النشاط الاقتصادي وسياسات توجيه هذا النشاط، دالاّت إنسانية واجتماعية وسياسية مثل «دالّة الرفاه الاجتماعي» social welfare function. ولذا قّلما يجمع الاقتصاديون على وصفةٍ واحدةٍ للمشكلات.
تسمح هذه المقاربة بتحديد حصة هذه العوامل في الأحداث الجارية والمتسارعة مثل كرة الثلج أو بالأحرى «النار»، إذ إن آثار عملية «إعادة الهيكلة الاقتصادية» ونتائجها بمصطلحات صندوق النقد الدولي، والتي اتسمت بارتفاع وتائرها في العشريّة الأخيرة في سورية تتخطى بطبيعتها المستوى الاقتصادي البحت إلى أحياز الحياة الاجتماعية- الاقتصادية- السياسية- الثقافية كافة، وتعيد تشكيل هذه الأحياز، وتفضي إلى تغييراتٍ عميقةٍ في علاقة «القوة» (Pouvoir) بالسلطة (Autorite). وبهذا المعنى فإن إعادة الهيكلة الاقتصادية لا يقتصر تأثيرها على المتغيرات الاقتصادية التي قد يكون التأثير فيها مبرراً في حد ذاته (مثل عجز الموازنة وحجم المديونية وغير ذلك)، بل يُلحِقُ بالحالة الاجتماعية والسياسية (ولا سيما في المراحل الأولى لإعادة الهيكلة) آثاراً، كثيراً ما تكون محفوفة بالمخاطر التي تهدد أمن شرائح وطبقات اجتماعية واسعة.
كي نفهم هذه العوامل لا بدّ من تأكيد التمييز بين النمو الاقتصادي والتنمية، فمعدّل النمو المرتفع لا يؤدي وحده إلى التنمية الاقتصادية- الاجتماعية، ما لم يرتبط بسياساتٍ تتجاوز النموّ «الكمي» إلى تحقيق تنمية «نوعية» مستدامةٍ. فالنموّ في ذاته لا يفضي إلى التنمية لكنه شرط لا بد منه. ويمكن معرفة متى يفضي النمو إلى تنميةٍ مستدامةٍ من خلال الإجابة عن الأسئلة المحدّدة التالية: ماذا حصل للفقر المطلق؟ ماذا حصل للبطالة؟ ماذا حصل لتوزيع الدخل؟.
رياح عملية التغيير
في محاولة الإجابات المحتملة عن هذه الأسئلة-الإشكاليات لا بدّ من القول إن البلدان العربية كافة تستوي في ذلك، وتختلف في الدرجة وليس في النوع. وربما يفسر هذا الأمر انتقال رياح عملية التغيير كالنار في الهشيم في هذه البلدان، وتساقط آثار ما يحدث في أي بلدٍ على البلد الآخر، مطوّحين في مجال التنمية على وجه التحديد بأساطير عدة مثل القول إن «مصر ليست تونس» و«سورية ليست تونس وليست مصر»، إذ إن السياسات الاقتصادية- الاجتماعية- المؤسسية التي اتبعتها هذه البلدان، كما سائر البلدان العربية الأخرى التي تجتاحها رياح التغيير، ترتد في حقيقتها إلى نموذجٍ تنموي واحدٍ، هو نموذج اللبرلة الاقتصادية التسلطية. ولأسباب سياسية «حوكمية» تأخرت سورية في السير في طريق ذلك النموذج مقارنةً بالبلدان العربية الأخرى، ولكنها بدلاً من ذلك سارت في أواخر ثمانينيات القرن العشرين وفي النصف الأول من التسعينات (1987ـ 1996) في طريق ما يمكن تسميته مرحلة التحرير الانتقائي الثاني في التاريخ الاقتصادي- الاجتماعي السوري خلال العقود الثلاثة الأخيرة التي يمكن وصفها تجاوزاً بمرحلة الإصلاح الثاني بحسب مفهوم المؤسسات الدولية للإصلاح الاقتصادي. بينما حدث التحرير الجزئي الأول في النصف الأول من السبعينيات لأسبابٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، لكن سببه السياسي كان هو الأوضح، وارتبط ببرنامج الرئيس الراحل حافظ الأسد بعد قيامه بالحركة التصحيحية (16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970) في الانفتاح على المدينة السورية، ومحاولة استيعاب دورها في سياسات الحركة. وفي أواخر التسعينيات وعبر العقد المنصرم من القرن الحالي شهدت السياسة الاقتصادية في سورية مرحلة التحرير الثالث الذي تميز بالتحول، بلغة صندوق النقد الدولي لبرامج الإصلاح الاقتصادي،من سياسة التثبيت النقدي إلى إعادة هيكلةٍ اقتصاديةٍ- اجتماعيةٍ-سياسيةٍ شاملةٍ. وتتحدّد إشكالية هذه المقاربة بتوصيف ثم تحليل حصة هذه العملية في الأحداث والاضطرابات والتظاهرات والاعتصامات التي تشهدها سورية اليوم، والتي تختلط فيها المطالب التنموية والديمقراطية والسياسية والثقافية في وقتٍ واحدٍ.
25/4/2011