التصوف العربي في سبيل السلام
منذ مطلع القرن الماضي كانت الصهيونية الدولية تتصل بكل الزعماء العرب على الإطلاق، وتحاول عقد اتفاقات وصفقات، وتقدم الرشاوى، الخ.. وبعد احتلال فلسطين سعت الإدارة الإسرائيلية إلى الصلح مع الإدارات العربية بهدف الحصول على شرعية عربية للاحتلال، وعلى إجماع عربي للتخلي عن فلسطين. وحصلت الإدارة الإسرائيلية على الإجماع المطلوب، ولكن بشكل غير معلن:
ضمت البلدان العربية المجاورة لفلسطين الأجزاء التي زادت عن الاحتلال (الضفة الغربية، وغزة، وشريط ضيق من شمال فلسطين) إليها (أي إلى البلدان العربية)، وبذلك انتهى وجود فلسطين عملياً، فالجزء المحتل هو «إسرائيل» والجزء غير المحتل هو أردني، أو مصري، أو سوري، وليس فلسطينياً. أما الفلسطينيون، فهم «لاجئون»، لا هوية لهم، فهويتهم أردنية في الأردن، ومصرية من الدرجة الثانية في غزة، وإذا ما سموا «فلسطينيين»، كما في سورية ولبنان وغيرهما، فليس ذلك لإعطائهما هوية قومية، وإنما لجعلهم أجانب ناقصي الحقوق (علماً بأن سوريا أعطتهم منذ أربعينات القرن الماضي الحقوق الكاملة التي للسوريين).
كان احتلال فلسطين تمهيداً لاحتلال الشرق الأوسط، وكانت الإدارات العربية تعلم ذلك، وتقبل عموماً به. وحدثت حروب بعدئذ، ولم تقلق الإدارات العربية عموماً من ذلك، فلم تغير سياساتها الموالية عملياً للاحتلال.
ـ حدثت حرب الحدود الأولى بين 1950 و1956
ـ وحرب سيناء في 1956
ـ وحرب الحدود الثانية من 1957 ـ 1967
ـ وحرب تشرين في 1973
ـ وحرب الليطاني في 1978
ـ وحرب لبنان الأولى في 1982
ـ وحرب لبنان الثانية في 2006
قد تبدو بعض تلك الحروب بمبادرة عربية. خطأ. الأمر مجرد سيناريو. حتى حرب 1947 لم تكن بمبادرة عربية.
إن من يريد الحرب لتحرير بلده، أو لأي هدف آخر، من المفروض أن يعد نفسه لذلك. حتى في مباراة الكرة لا يأتي الفريق دون تدريب. وفي جميع الحروب مع إسرائيل، كان ينقص الدفاع والدفاع المدني، بل والسلاح. وحتى مع وجود السلاح السوفييتي في الستينات من القرن الماضي، فقد دمر في مكانه أو سبي وبيع في أسواق السلاح السوداء. ليس المقصود هنا التحريض لا بالجيوش العربية، ولا بأحد. التحريض هو فقط بسياسة الإدارات العربية الموالية للرأسمالية الدولية، والموالية موضوعياً بالتالي، بشكل مقصود أو غير مقصود للاحتلال. ففي ظل هيمنة الرأسمالية الدولية، لا يمكن رسم استراتيجية دفاع صحيحة، بل ولا رسم استراتيجيات اجتماعية واقتصادية صحيحة.
أيام التقارب مع الاتحاد السوفييتي في ستينات القرن الماضي، بدأ البلدان سورية ومصر السير في سياسات وطنية، ولكن كان ذلك متناقضاً مع الواقع العربي السياسي والاجتماعي والاقتصادي، ومع واقع البلدين الاجتماعي والاقتصادي، فلم تستطع السياسات الوطنية أن تصمد، وخصوصاً أنها لم تقطع الخيوط لا مع الرواسب التقليدية، ولا مع الرأسمالية الدولية.
حتى في حرب 2006 مع المقاومة اللبنانية، كان النظام اللبناني والأنظمة العربية عموماً تطعن المقاومة في الظهر، ولولا البطولات الخارقة، والإعداد الذي في غاية الجودة، ما استطاعت المقاومة أن تنقذ لبنان من الاحتلال.
العسكرية الإسرائيلية هي التي شنت الحروب، بسيناريو أو بآخر، مع البلدان العربية، التي لم تكن في أي وقت لا مستعدة للحرب، ولا قادرة عليها. احتلال فلسطين كان بداية لاحتلال المنطقة، وهذه هي البدهية، التي ترفض الإدارات العربية وضعها في اعتبارها، وترفض في نفس الوقت تركيز النظر عليها، لكي تبقى الشعوب متنبهة للخطر، فلا تؤخذ على حين غرة.
حتى السبعينات من القرن الماضي كانت العسكرية الإسرائيلية تتطلع إلى اختراق المنطقة في اتفاقات علنية مع أي بلد، وكانت في نفس الوقت تستهدف لبنان، باعتباره الحلقة الأضعف في رأي بن غوريون، ودايان، كان دايان، بوجه خاص، يعمل على إيجاد ولو ضابطاً لبنانياً واحداًَ، يساعد إسرائيل على إعلان دولة طائفية، تتدخل إسرائيل عسكرياً في الوقت المناسب لإنجاحها.
وفي أواخر السبعينات من القرن الماضي حدث الاختراق المنشود إسرائيلياً مع مصر، ووقعت اتفاقات كامب ديفيد مع الإدارة الساداتية.
وتطورت الأمور في لبنان، كما هو معلوم، فوجد بدلاً من الضابط اللبناني المنشود لدى دايان منظمات لبنانية كاملة طائفية، قامت في سبعينات القرن الماضي بأقذر حرب أهلية، كان يقتل فيها الناس بهمجية على الهوية. وفي أيام الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، اشتدت الهجمة الرجعية في العالم، ونشبت حرب 1982 الإسرائيلية اللبنانية، التي كانت تستهدف في نفس الوقت سوريا والأردن. ولم تستطع العسكرية الإسرائيلية لأسباب دولية حينئذ، لا احتلال لبنان، ولا توسيع الحرب إلى لبنان وسوريا. استطاعت فقط التدمير غير المسبوق في لبنان، وإخراج القيادة الفلسطينية من البلاد، وارتكاب مجازر صبرا وشاتيلا، وفرض وضع الغيتو على المخيمات الفلسطينية، إضافة إلى أنها احتفظت بشريط لبناني حدودي، من خلال ميليشيا تابعة لها. لم تستطع العسكرية الإسرائيلية أيضاً إبقاء النظام التابع لها في لبنان، ولا تنفيذ الإتفاقات، التي عقدتها مع ذلك النظام.
وانهار الاتحاد السوفييتي عملياً منذ 1985، العام الذي أتي فيه غورباتشوف وشلته إلى السلطة. أمور كثيرة تغيرت في العالم، ومن الجملة كانت مضاعفات ذلك على الشرق الأوسط مصيرية. نشبت حربا الخليج الأولى والثانية، وعقد مؤتمر مدريد 1991، الذي نتجت عنه اتفاقات أوسلو ووادي عربة، والاتفاقات السرية الأخرى. اختراق العسكرية الإسرائيلية العلني للمنطقة نجح بشكل واسع، ولم تعد لدى الإدارة الإسرائيلية مشكلة في هذا الخصوص. الإجماع العربي على ترك الفلسطينيين لمصيرهم تم بشكل عملي، فيد الإدارة الإسرائيلية حرة حرية مطلقة في الأراضي الفلسطينية، حرة دولياً، وحرة عربياً، وحرة إسلامياً. وأغلب ما يصدر من ألفاظ تأييد للفلسطينيين، يبقى في حيز الهذيان أو الثرثرة. وأتى الاحتلال الأمريكي للعراق، الذي هو أيضاً تمهيد لاحتلال المنطقة، رغم التبعية الخانعة لإدارات بلدانها، للإدارة الأمريكية. بالنسبة للعلاقة مع إسرائيل انقلبت الآية. صارت الإدارة العربية تحلم بالسلام مع إسرائيل، عسى ذلك يشفع لها مع الإدارة الأمريكية، بينما كانت إسرائيل هي التي تسعى للسلام مع الإدارات إياها.
السلام ضروري لجميع الشعوب، ومن الجملة لشعوب الشرق الأوسط، التي تجتاحها المجازر. غير أن السلام يتطلب أمرين، الأول، أن تكون الإدارة التي تبرمه سيدة في بلدها، والثاني أن تكون في وضع ندي مع الطرف الآخر، فلا معنى للسلام بين الحمل والذئب. الأمران غير متوفرين، فالإدارات العربية هي عموماً ناقصة السيادة بفعل هيمنة الرأسمالية الدولية، والندية بين الإدارة الإسرائيلية وأية إدارة عربية هي غير متوفرة، فالفارق في القوة العسكرية على الأقل كبير، والفارق في الدعم الأمريكي والدولي للإدارة العسكرية الإسرائيلية هو أكبر بكثير. فبينما الإدارات العربية مغضوب عليها، حتى الأشد موالاة للإدارة الأمريكية، فالإدارة الإسرائيلية مدللة وتستطيع أن ترتكب ما تشاء من الجرائم، لقد قصفت مقر الأمم المتحدة، في لبنان، ولم ينتفض أحد في العالم احتجاجاً على ذلك، وأهانت الرئيس الفرنسي جاك شيراك عندما كان ضيفاً عليها وابتلع الإهانة، ثم نسيها أخيراً، وترتكب الاغتيالات والقتل الهمجي دون احتجاج. عدا ذلك، أي سلام جديد مع العسكرية الإسرائيلية سوف يزيد المجازر في المنطقة، ويزيد في نفس الوقت هشاشة بلدان المنطقة. يكفي أن يقرأ المرء الشروط الإسرائيلية المعلنة وغير المعلنة للسلام: الرد على طرح «الأرض مقابل السلام» هو «السلام مقابل السلام»، وحتى بقبول «السلام مقابل السلام»، الرد هو «التطبيع أولاً»؛ و«التطبيع»، لا يعني فقط الاعتراف المتبادل كأي دولتين في العالم غير متعاديتين، ويجب فتح الحدود والاقتصاد والتربية والمفاهيم الاجتماعية لإسرائيل، ويجب قمع أي تمرد أو أي احتجاج في البلد ذي العلاقة وفي البلدان المجاورة: يجب أن يتحول العداء للاحتلال إلى حب لإسرائيل ولكل ما قامت أو تقوم به إدارتها. يجب السماح لإسرائيل بالتدخل في العلاقات العربية ـ العربية، وفي العلاقات العربية ـ الدولية.
عدا ذلك، وهو الأخطر، يجب القبول بتمزيق البلدان العربية على المدى الأبعد، وبتحويلها إلى مشيخات صغيرة طائفية وعنصرية. أما الموضوع الفلسطيني، فمتروك كلياً لإسرائيل.
الشروط العربية للسلام لا معنى لها، لأنه ليس لدى الإدارات العربية لا القدرة، ولا النية على فرضها. فهي شروط شكلية للتمويه، تختفي مع بدء المفاوضات، أو مع بدء «التطبيع» شعوب الشرق الأوسط هي أمام خطر كبير، وليس هناك من يدافع عنها سوى قواها الوطنية، التي نتمنى أن تتحد لتواجه مختلف الاحتمالات القائمة من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي.