مجبرون كي نعيش

مجبرون كي نعيش

 تأتي موجات الصقيع على البلاد فيتغير روتين الحياة الاعتيادية بشكل عام، ويؤجل السفر وتؤجل المدارس والامتحانات والزيارات والترفيه و ندخل في فترة استثنائية لا تشمل المرتزقين من كدحهم اليومي، أولئك الذين بالكاد يؤمنون كفاف يومهم، فتراهم غير مبالين ببردٍ أو حَّرٍ، كما لم يبالوا سابقاُ بقذائف أو حواجز أو حَجر صحي، فلا مجال للتوقف عن الكسب اليومي، وهذا يجعلهم كنزاً ثميناً لأرباب العمل الذين يستغلون نقطة الضعف هذه لتضاف إلى عشرات نقاط الضعف التي أنتجها النهج الاقتصادي المتبع في البلاد والمصمم على قياس أرباب الأعمال وسائر الناهبين لعرق العمال وساعات عمرهم. 

- ريف دمشق

ما إن تأتي موجات الصقيع والبرد الشديد على البلاد حتى تنكفئ العديد من الحرف والصناعات عن الاستمرار بالعمل ولو بشكل نسبي وبشكل خاص تلك الأعمال المنجزة في العراء مثل ورشات صيانة السيارات والصناعات المعدنية وبعض أعمال النجارة، وتعاود نشاطها عند تحسن الطقس، وهذا أمر اعتيادي وبدهي لطالما كان كذلك، ولكن في ظل هذه الموجة الحالية خرجت العديد من الأعمال عن المألوف فرأينا مثلاً استمرار العديد من الورش الخاصة بصيانة المركبات الخفيفة والثقيلة بالعمل في العراء مكتفين بوسيلة تدفئة عبارة عن «تنكة» من الصفيح وبعض الخشب، يمررون كفوفهم فوقها بين الفينة والأخرى، كي تتمكن أصابعهم من القبض على أدوات العمل، وربما من المنطق أن يستمروا بعملهم هذا في حال كان ضرورياً كتبديل الإطارات أو كهرباء السيارات من مصابيح الضوء ومسّاحات الزجاج وغيرها من الضرورات، لكن أن نرى أعمال تجليس وميكانيك وغيرها من الأعمال التي من الممكن تأجيلها حتى انحسار الموجة فذلك يحتاج إلى معرفة الأسباب الكامنة وراءها.
لذلك توجهنا مع موجة الصقيع الحالية لمجمع الرضوان الموجود على كتف الطريق المؤدية إلى منطقة الباردة في ريف دمشق الجنوبي، حيث أوقفنا المشهد الذي رصدناه وأخذنا نطرح على أنفسنا العديد من الأسئلة التي نتجت تلقائياً من مدى استغرابنا وعظيم دهشتنا ، ولم تكن أسباب هذا الاستغراب والتساؤلات إلا رؤية عشرات العمال الذين يشتغلون في العراء في ظل موجة الصقيع غير المحتمل، وليس أي عمل بسيط، بل بالصناعات المعدنية الثقيلة، كصناعة الصهاريج والأعمدة الكهربائية والمكابس وغيرها، حيث لا شيء يفصل أكفهم عن الصلب إلا قفازاتهم البالية، مما جعلنا نبحث عن أسباب عملهم في هذه الظروف فأي بأس في توقفهم المؤقت حتى تنجلي هذه الأيام التي لا تطول عادة؟ ما الذي يجعلهم يعرّضون أنفسهم لمخاطر إضافية؟ وما هو موقف صاحب العمل من كل هذا؟

إجبار غير مباشر

اقتربنا من العمال باحثين عن إجابتنا وتجاوب معنا أحد العمال الكبار في السن والذي علمنا لاحقاً بأنه رئيس الورشة المسؤولة عن صناعة الصهاريج لما يمتلكه من خبرة متراكمة، وأجابنا عن تساؤلاتنا قائلاً، نحن مجبورون على العمل ولو كان الأمر عائداً لنا لرأيتنا نجلس حول مدافئ بيوتنا نشوي الذرة والكستناء، ولكنّ الأمر ليس كذلك، وللأمانة فإن صاحب العمل لم يجبرنا على الدوام اليوم، ولا في غيره من الأيام لكنه فعلياً يجبرنا بشكل غير مباشر كوننا نعمل على حسابنا بأجر يومي، وهو لن يدفع لنا أية ليرة إذا لم ننجز عملنا، ولذلك فنحن حريصون على العمل طوال الأيام بغض النظر عن الظروف، حتى أثناء المرض، أترى ذلك الشاب الذي يقوم بالتلحيم هناك، لم يتوقف عن العمل في الشهر الماضي رغم تعرضه لألم في الكليتين، لا أحد بيننا قادر عن التخلي عن أجر ساعة فكيف إن كانت أياماً؟ صدقني سنموت من الجوع، ولتنسى موضوع المدفأة والكستناء فهي مجرد مزحة لا غير، فالعمال هنا تتراوح يوميتهم بين 10 إلى 18 ألفاً هل تظن بأن أحداً منهم قادر عن التخلي عنهم، أنا يوميتي 30 ألفاً ولا تكفيني لنصف الشهر فكيف وضعهم إذاً؟

ولو إلى حين..

وأضاف العم أبو جمال: ليس بوسعنا الاعتراض أو التململ، نحن نفهم واقعنا جيداً ونعرف الظروف التي تحيط بنا، أغلبنا عاجز عن تأمين ضرورات الحياة إلا إذا اتبعنا هذا الأسلوب بالعمل، علينا أن نكون رجالاً آليين وغير معنيين بعطلة أو طقس، نحن نفجّر غضبنا اليومي بالحديد والعمل، وحتى حين نصاب خلال العمل فلا نتوقف عنه بل نعمل بمرحلة أو ورشة أخرى تتناسب مع الإصابة، ولا داعي ليعصرنا صاحب العمل بل نحن نعصر أنفسنا بأنفسنا، فقط لأنه هو من يضع القوانين لا نحن، هو يكتفي بربط الأجر بالدوام مع ابتسامة رحمانية وكلمة الله يعطيكم العافية وسيسير كل شيء كما يريد ولمصلحته، فأرباح المهنة هذه كبيرة ونعرف ذلك لكن هذا واقع لا بد لنا من التماهي معه ولو إلى حين، فلا يبقى على ما هو إلا هو.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1055