رسالة من عامل «لست أديباً ولاسياسياً، لكني أفهم ما يجري حولي...»
معذرة لست أديبا لا مدبج مقالات. أنا عامل في هذا الوطن أمضىت ما ينوف عن ثلاثين عاما في إحدى شركات القطاع العام الذي يعمل دون ضجة ولكن املك عينا ترى ورأسا ربما يعرف الكثير مما يدور حوله، وفي النهاية مستقبلي ومستقبل أطفالي، وبالتالي، وطني يضغط علي بإخراج صوت يصرخ بداخلي منذ زمن بعيد كان كابوس الخوف نعم الخوف ...يمنعه من الخروج ولو انه حاول بين الفينة والأخرى الإطلال من نافذة ضيقة لكن الريح الغبراء كانت تصفع النافذة ووجهي أحيانا. لن أقدم أكثر سأدخل مباشرة في صلب ما أريد قوله قبل أن يداهمني الخوف من جديد واصمت ثانية .
لقد كثر الحديث عن الإصلاح الإداري والاقتصادي، ويوميا نقرأ على صفحات الجرائد ونسمع في الندوات والمحاضرات من الثلاثاء الاقتصادي إلى الجمعة الحزينة حتى يخيل لنا أن اقتصادنا، وبالتالي واقعنا بكل جوانبه واعتقد حسب معرفتي البسيطة بأن لا فصل بين جميع الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية فجميعها أعضاء الجسم الواحد، ويمكن القول بأن هذا الجسم تعب من كثرة المسكنات وعرضه على المشعوذين سواء لبسوا ثوب الثوار والمناضلين أو رداء الاقتصاديين وعباقرة النظريات، لكنه يأبى وينأى عن كل ذلك. فالعظام صلبة والخلايا السليمة كثيرة، بدليل ما بدأ يجري منذ فترة ليست طويلة، وأعتقد أن القطار وضع على السكة والبداية أصعب المراحل في المسيرة.
سأحصر حديثي عن القطاع العام وما آل إليه الحال. اعتقد جازما بأنه صورة حقيقية عن الوطن بأكمله، لقد وصل القطاع العام الى مرحلة ليست صعبة فقط بل ربما تكون مستحيلة الشفاء ولا مستحيل مع إرادة البشر. وسأتحدث عن قطاع الغزل والنسيج كوني ابن هذا القطاع وأحد العاملين فيه، هذا القطاع الذي يضم 28 شركة ومشروعاً ويمثل ثاني أهم قطاع اقتصادي في هذا الوطن.
منذ أكثر من عشرين عاما بدأت الأمراض تنهش هذا الجسم، وتداخل فيه العام بالخاص، حتى بعدت الحقيقة عن أعين الكثيرين من أصحاب القرار، وكان من مصلحة الكثيرين تعتيم الصورة، وفي جو العتمة فعلوا أفعالهم من نهب وتخريب وفساد وإفساد حتى الشركات وفسدت ضمائر الكثيرين وامتطى صهوات الجياد الكثير من الانتهازيين والطفيليين وضعاف النفوس وناشدي الملذات والزعامات ولبسوا عباءات كثيرة منها السياسي ومنها الإداري ومنها النقابي وغير ذلك ونكتفي بأرقام الخسائر لهذا القطاع وبكل مؤسساته والى أرقام المخازين التي تجاوزت /18/مليار ليرة بالسجلات، والواقع اكبر من ذلك، ومن العيب فعلا ان نسمع تبريرات المسؤولين عن هذا القطاع بكل أصنافهم فقد مللنا سماع هذه الأسطوانات كما مللنا سماع أغاني هذه الأيام .لقد اصبح الشغل الشاغل لجميع قيادات هذا القطاع، سواء الإدارية او من يلتف بعباءاتها ويشاركها غنائمها سياسياً أو رقابياً او نقابياً أو حتى صحفياً، واصبح الشغل الشاغل كيف نرتب الأرقام وكيف نخفي الحقائق ونزِّور لنصبح أبطالا ونرسم الخطط لنزداد ثروة ونفوذا وكيف وكيف والاهم الطريق الى صاحب القرار أو حاشيته. وقد تراكمت خبرات كثيرة عن هؤلاء واصبحوا قادرين على إيهام الكثيرين بالبراءة والنزاهة والعمل للصالح العام ولكن إلى متى يستمر هذا الكذب وهذه الخدع فالواقع الفاسد بدأ يعرى ويكشف عورات الكثيرين، وإذا لم يوضع مبضع الجراح على موضع الألم ولو كانت عميقة ويستأصل الدرن الفاسد، فإن مستقبل هذه الشركات وعمالها وأسرهم واضح وضوح الشمس وبالتالي مستقبل الوطن، وليس المطلوب تغيير مدير أو إدارة، فالقضية اكبر من ذلك بكثير إذ ليس هناك مفصل واحد أو دائرة أو قسم في كل هذه الشركات إلا ودخل النخر إليه وإذا كانت شركة أو اثنتان في الأكثر من الـ 28 شركة موفقة فهذا لا يغير من الأمر شيئا، بل يؤكد ان عناصر الخير في هذا الوطن موجودة ولكنها بحاجة الى مناخ للنمو والاستمرار. ومن المؤسف ان نرى أمام أعيننا كيف تقمع وتحارب عناصر الخير والعطاء ويغطى على جهود الكثيرين من العمال الطيبين في زحمة الولاءات والوساطات وأصحاب النفوذ. كثيرون تركوا هذا القطاع وربما نبرر لهم وكثيرون لا يزالون يعانون ويتحملون وأنا واحد منهم ويتفاءلون بما هو آت.
حتى لا أطيل وعندي الكثير بداخلي يطلب الخروج ولكني قادر حتى اللحظة على ضبطه قليلا. أرجو ان اقدم تصوري للعلاج بمنظوري البسيط فلست أكاديميا ولا خبيراً في الوصفات الدولية، مزيدا من الديمقراطية للسماح للصوت الحر بالخروج، مزيدا من الحوار المفتوح ولكل الناس بقاسم مشترك هو كيف نصلح ما افسد، مزيداً من إعطاء الدور للشرفاء وما أكثرهم، مزيداً من التدقيق على كل رقم وكل حالة، مزيداً من العمل الميداني المباشر، مزيداً من تنظيف عدسات الكاميرات وتبديل البالي منها، ربما يموت الجبان في داخلنا. فكلمة لا صعبة وثمنها كبير ولكنها تصرخ في الداخل.
■ أبو حيدرة