الحركة النقابية ومهامها الآنية
أظهرت الأحداث الجارية عمق الأزمة التي يعيشها شعبنا ووطننا، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وهذا يعترف به الجميع، سواء الذين يرون في الحراك الشعبي السلمي أنه الضمانة لتحقيق الإصلاحات الجذرية والشاملة، وبالتالي لابد من حمايته والمحافظة عليه وتخليصه من الشوائب العالقة به، والطريق إلى ذلك هو بتحقيق مطالبه المشروعة السياسية والاقتصادية - الاجتماعية، أو الرافضين لهذا الحراك جملة وتفصيلاً، واعتباره نشازاً يعكر صفو مسيرة الإصلاح، وبالتالي لابد من مواجهته والتصدي له بشتى الوسائل والطرق، أو الواقفين في الوسط بين الموقفين، الذين يقرون بشرعية المطالب، ولا يوافقون على طريقة التعبير عن تلك المطالب المشروعة (أي التظاهر بالشارع).
ولكن ما يجمع الأطراف الثلاثة أن الجميع يريد مخرجاً لهذه الأزمة العميقة، التي أظهرت مجرياتها وتطوراتها أن لا مخرج حقيقياً منها إلا بملاقاة المطالب العادلة لأغلبية الشعب السوري، تلك المطالب التي في حال تحققها ستعزز وحدة الوطن أرضاً وشعباً، وهذا يعني في الجانب السياسي أن الكثير من الثوابت والمسلمات التي اعتُبرت ثوابت على مدار العقود الخمسة الفائتة، أصبحت من الماضي، أو بعيدة عن التقديس والقدسية، ولا مجال لقيادة الدولة والمجتمع وفقها إلى ما لا نهاية، ورغم ذلك هي الآن مدار نقاش وجدل وصراع مع أن الحياة والتجربة قد حسمت الموقف تجاهها، إذ لا بديل عن التغيير.
لقد تطور مجتمعنا السوري بما يكفي لكي يقول ما يريد، والكيفية التي ستتحقق فيها مطالبه عبر الطرق والوسائل الحضارية التي ستكفل وصوله إلى حقوقه المشروعة والعدالة، التي نزل الكثيرون من أجلها إلى الشارع. وحتى الذين لم ينزلوا فإنهم يشاركون بهذا الحراك الواسع ويعبرون عن مواقفهم ومطالبهم بالحوار والنقاش الذي يدور في كل شارع وبيت وحارة.
إن الاستعصاء الجاري في المجتمع الآن ما كان ليحدث لو كانت هناك أقنية اتصال مفتوحة بين النظام والمجتمع، تستقبل وترسل الإشارات، فالمجتمع في وادٍ والنظام في وادٍ آخر، لا يرى المجتمع ومطالبه وحجم التناقضات التي تراكمت فيه إلا بعين واحدة، تكون زاوية الرؤية فيها ضيقة جداً، فيجري التعامل مع هذا الحراك كتلة واحدة دون تفريق بين مكونه الأساسي السلمي الذي له مطالب مشروعة، ويبن ما علق به من شوائب وملوثات تحتاج إلى إزالة، حتى لا يذهب هذا الحراك إلى مواقع أخرى يسعى البعض إلى جره إليها.
واللافت للنظر بهذا الخصوص أن البعض في قيادة الحركة النقابية يرى الأمور من الزاوية الضيقة تلك نفسها، ويتعامل مع هذا الحراك باعتباره حراكاً لا شرعياً لابد من مواجهته، مع أن الحركة النقابية هي الأكثر دراية بحجم التناقضات وعمقها في المجتمع، لصلة كوادرها المباشرة مع الطبقة العاملة ومطالبها، ومعاناتها الطويلة جراء السياسات الاقتصادية الليبرالية التي لعبت الدور الرئيسي في إيصال المجتمع إلى ما وصل إليه، حيث كان الكثير من القوى الوطنية يحذر من أن استمرار تلك السياسات سيؤدي إلى انفجارات لا أحد يعلم مآلها النهائي.
من بين الذين كانوا يطلقون التحذيرات هم من كوادر الحركة النقابية، في الاجتماعات والمؤتمرات، ولكن لا حياة لمن تنادي، فقد وقعت الفأس بالرأس، كما يقال، ولا مخرج لما يجري الآن إلا بإيجاد حلول حقيقية جذرية وشاملة وسريعة، يقتنع بأهميتها وجديتها الشعب السوري، الذي عانى الويلات من السياسات الليبرالية والحرمان لحقوقه السياسية في التعبير والممارسة على الأرض.
لقد لعب البعض في قيادة الحركة النقابية دوراً مهماً إلى جانب الحكومات السابقة في تنفيذ سياسات حكومية بعكس مصالح العمال والتسويق لها في صفوف الطبقة العاملة، عوضاً عن مواجهة تلك السياسات بكل الطرق والوسائل الحضارية التي نصت عليها الاتفاقيات الدولية والعربية، وخاصة ما يتعلق منها بالحريات النقابية والديمقراطية، ومنها حق الإضراب للطبقة العاملة، هذا الحق الذي كانت وما زالت تنكره على الطبقة العاملة، والذي كان يمكن استخدامه إلى جانب حقوق أخرى تستطيع الحركة استخدامها في المواجهة المبكرة، ألا وهي موقعها ومهمتها كممثل للطبقة العاملة في مجلس الشعب، الذي من خلاله جرى إقرار الكثير من المراسيم والتشريعات التي أصابت مصالح الشعب السوري بالضرر الكبير، ومنه الطبقة العاملة السورية، حيث وافق ممثلو العمال في هذا المجلس على قانون العمل رقم /17/ الخاص بعمال القطاع الخاص، بالرغم من الاعتراضات الكثيرة من الكوادر النقابية على العديد من مواده باعتبارها مواد إذعان تجعل العمال وحقوقهم ومكاسبهم رهينة بيد أرباب العمل المتحالفين في المجلس وخارجه مع قوى هامة في الدولة لها مصالح مشتركة مع قوى رأس المال.
كان يمكن للحركة النقابية أن تلعب دوراً مهماً في مواجهة تلك السياسات الليبرالية لو انطلقت من تمثيلها الحقيقي للطبقة العاملة ولمصالحها ومكاسبها، ولكن تقيدها وارتهانها لقرارات من خارجها أفقدها إمكانية الحركة والدفاع المستقل عن المصالح الجذرية للطبقة العاملة، وأهمها إعادة توزيع الدخل الوطني، أي إعادة التوزيع مرة أخرى بين الأجور والأرباح، التي هي مختلة لمصلحة قوى السوق... لمصلحة الأرباح..