التسريح بالجملة.. والرد بالمفرق؟!
في اجتماع مجلس اتحاد عمال دمشق العاشر جرت الإشارة إلى قرارات التسريح الصادرة عن الحكومة بحق العديد من العمال الذين وصفهم أعضاء المجلس بالمظلومين، ووصفتهم الحكومة بالفاسدين، بعد أن أصدرت قراراتها بتسريحهم، كما فعلت في حلب وحمص ودمشق وغيرها من المحافظات.
ويبدو أن مسلسل التسريح لن يقف عند هذا الحد، بل سيمضي قدماً، لأن برنامج الحكومة في مكافحة الفساد لا يجري تنفيذه إلا بحق القابعين في أسفل الهرم الوظيفي، ولا يطال المتربعين أعلاه، والحكومة بذلك تطبق المثل الشعبي (ما قدر على حماته، أجى على مراته)، وبناءً على ذلك يكون هؤلاء العمال (الفاسدون) هم من مارسوا عمليات النهب الواسعة، والمقدرة بالمليارات حسب مصادر حكومية!!
إن ما يصدر من قرارات تسريح بحق العمال هو قلب للحقائق الجارية على الأرض، والتي يعرفها القاصي والداني، وهي أن النهب الحقيقي يتم في المفاصل العليا، حيث يتربع كبار الحيتان على رأس المواقع المتحكمة بالمفاصل الاقتصادية والمالية في البلاد، مما مكنهم وسيمكنهم من ممارسة النهب ومراكمة ثروات هائلة بين أيديهم، دون أن يسألوا «من أين لكم هذا؟»، أو أن تثار أية شكوك حول مصادر ثرواتهم، رغم أن الحلال بين والحرام بين، ولا يمكن مراكمة تلك الثروات من الأجور والتعويضات التي يتقاضونها مهما بلغ مقدارها ، ونحن هنا لا ننفي وجود بعض الممارسات الفاسدة لدى البعض من العمال، ولكن حتى هذه الممارسات لا يمكن أن تتم دون تغاض ممن هم في مواقع مسؤولية أعلى.
وهناك طريقة أخرى للتسريح تفتق عنها الذهن الحكومي، وهي التعاميم التي تصدرها الوزارات، وخاصةًَ وزارة الصناعة، القاضية بإحصاء اليد العاملة الفائضة في المعامل والشركات، وهذه الخطوة ليست بريئة، ولا تأتي في سياق إعادة تشغيل اليد العاملة وفق عملية إصلاح واسعة للقطاع العام، وهي العملية التي وضعتها الحكومة في أدراجها بعد مداولات ودراسات، وأخذ ورد دام لسنوات طويلة، ليكون مآل قانون الإصلاح مثل مآل كل القوانين والدراسات السابقة التي كلفت البلاد الملايين من الليرات لقاء أتعاب الخبراء والمختصين، من أصحاب الباع الطويل بإعادة الهيكلة وفقاً لنصائح وتعليمات صندوق النقد الدولي، والتي تتلخص نصائحهم بالتقليل من التكاليف (والتكاليف هنا هي أجور العمال) وتقليص عدد العاملين في تلك الشركات والمعامل.
ومن وسائل التسريح أيضاً ما يجري في العديد من الشركات الإنشائية التي يحكمها بعض المدراء المتنفذين الذين يقومون بالضغط على العمال ونقلهم إلى مواقع عمل بعيدة عن مسكنهم، مما يرتب عليهم أعباءً لا طاقة لهم بها، تحت حجة المصلحة العامة، والمصلحة العامة هنا هي دفع العمال لتقديم استقالاتهم بسبب ظروف العمل الجديدة التي وضعوا فيها، والتي لا قدرة لهم على تحملها، خاصةً وأنهم لا يتقاضون أجورهم إلا كل ثلاثة أشهر أو أكثر، وهذا يعني بالنسبة للعمال جوعاً حقيقياً لهم ولعائلاتهم، ليس هذا فقط، بل إن عدداً من الشركات الإنشائية قامت بتسريح /180 عاملاً/ تحت حجة قلة موارد هذه الشركات، كما جرى في عدد من الشركات الإنشائية في دمشق، وفي الشركة العامة للمياه في الرقة.
هذا بعض ما يجري في شركات القطاع العام، أما مايجري في القطاع الخاص فهو أعظم، حيث يجري التسريح وإغلاق المنشآت بالجملة لأسباب عدة، تتحمل وزرها السياسات الحكومية التي فتحت أبواب البلاد على مصراعيها أمام البضائع الأجنبية، من خلال تحرير الأسواق، دون أية إجراءات حمائية للإنتاج المحلي الذي يعاني من حالة كساد وعدم قدرة على المنافسة، وهذه الحالة مرشحة للتفاقم مع تطورات الأزمة الرأسمالية، وخاصةً في تلك المعامل التي تعتمد في إنتاجها على مواد أولية مستوردة، أو التي تعتمد في تصريف إنتاجها على الأسواق الخارجية.
إن السياسات الحكومية التي قادها الفريق الاقتصادي في المجال الاقتصادي والاجتماعي قد أوصلتنا إلى أبواب كارثة تقترب يوماً بعد يوم مع تطور الأزمة العامة للرأسمالية (التي يتباهى الفريق الاقتصادي أنها لم تؤثر علينا بسبب «سياساته الحكيمة»)، وإن الإشارات التي تصدر عن الكوادر النقابية منذ مدة حول مدى خطر تلك السياسات الاقتصادية على الاقتصاد الوطني وعلى مصالح الطبقة العاملة تعكس أحساس تلك الكوادر بهول ما يجري. ولكن السؤال هو: هل تكفي الإشارة إلى المخاطر المحدقة بنا لمنع حدوثها، أم أن هناك خطوات أكثر جدية لابد من اتخاذها؟