الحركة النقابية على مفترق طرق
إن تطورات الأحداث قد فرضت حراكاً وجدلاً سياسيين واسعين شملا جميع الطبقات، ولم يستثنيا أحداً، فالكل تأثر بما يجري، والكل بدأ بتحديد الموقف والسلوك وردات الفعل، انطلاقاً من فهمه لطبيعة التطورات التي يرُدُّها البعض إلى مؤامرة خارجية، والبعض الأخر يردُّها إلى جذورها التي نمت وترعرعت في تربتها الخصبة التي أوجدتها السياسات الاقتصادية الليبرالية، والتي ترافق معها غياب للحياة السياسية والديمقراطية (الشعبية)، حيث تفاعلت وأنتجت حجماً هائلاً من الاستياء والتذمر والغضب من هذه السياسات، لانعكاسها السلبي المباشر على حياة المواطنين، حتى وصلت الأمور لحد المطالبة بتغيير تلك السياسات ومن يمثلها، وبضرورة إنجاز الإصلاحات الحقيقية التي تُمكِّن الشعب من مواجهة التآمر الداخلي والخارجي على أمن الوطن وسلامته وحقوق فقرائه، ومن هذه الإصلاحات المطلوبة تأمين حقوق الطبقة العاملة السورية التي اكتوت كثيراً بنار السياسات الليبرالية، والتضييق على حرياتها وحقوقها الديمقراطية، التي كثيراً ما طالبت بها بالطرق السلمية التي منحها إياها الدستور السوري، مستخدمة حقها بالدفاع عن حقوقها ومكاسبها التي أخذت تخسرها شيئاً فشيئاً منذ سنوات، إلى أن وصلت إلى حالة تقتضي الوقوف عندها، وإيجاد مخرج حقيقي يؤمن تلك الحقوق ويدافع عن تلك المكاسب وخاصة عمال القطاع الخاص الفاقدين لحقوقهم ولأشكال الدفاع عنها، وذلك بتحريم حق الإضراب والاحتجاج السلمي وتجريم من يقوم به، بفعل قانون العمل الجديد الذي استمد شرعيته من قانون الطوارئ الذي يُشهَر في وجوههم، مهدَّدين من قبل أرباب العمل والأجهزة معاً، إن فعلوا ما يخالف ذلك.
وبالمقابل فإن الحركة النقابية لم تحرك ساكناً يغير ويبدل من واقع الحال الذي يعاني منه عمال القطاع الخاص، من حيث العمل على زيادة أجورهم التي تتناقص قيمتها بفعل ارتفاع الأسعار، وأيضاً لم تستطع أن تقدم لهم الحماية تجاه عمليات التسريح الواسعة التي يقوم بها أرباب العمل مسلحين بقانون عمل يحمي إجراءاتهم دون أن يجدوا مقاومة أو رادعاً يحول دون اعتداءاتهم المتواصلة على حقوق العمال، حتى تلك الحقوق التي أقرها لهم قانون العمل /17/، فإنهم محرومون منها ولا يستطيعون المطالبة بها، لأن ذلك إن تم سيكون مصيرهم الشارع، وهذا الشارع مليء بزملائهم العاطلين عن العمل الذين وعدت الحكومة وعبر خطتها الخمسية العاشرة بأن من أولوياتها تأمين العمل لهم، لكن ما الذي جرى؟ إن الحكومة لم تستطع أن تحل ولو جزءاً بسيطاً من تلك المهمة المستعصية على الحل، ليس بسبب انعدام الموارد والإمكانيات، بل بفعل السياسات التي كان يمليها صندوق النقد والبنك الدوليين على الحكومة (السابقة)، وخاصة بما يتعلق بضرورة انسحاب الدولة من دورها الرعائي تجاه المجتمع في التشغيل والصحة والتعليم والنقل والسكن.. إلخ.
إذاً هناك الكثير من القضايا العمالية المطلبية والحقوقية تشهد على قصور وانعدام فعل الحركة النقابية تجاهها، ليس بسبب عدم قدرتها وإمكاناتها المحدودة، بل بسبب خَطِّها وآليات عملها النقابيين، وعدم استقلاليتها في اتخاذ القرارات التي تعبر عن مصلحة الطبقة العاملة وكيفية الدفاع عنها، بمعزل عما يُملى عليها من توجهات جعلت علاقتها بالطبقة العاملة محل نقاش من أغلبية العمال، وخاصة عمال القطاع الخاص الذين بدأ يسود بينهم تساؤل لم نكن نرغب أن يسود، وهو: هل الحركة النقابية بواقعها الحالي صالحة للدفاع عن حقوقنا؟ وهل بإمكانها مواجهة أرباب العمل في ظلمهم للعمال والتعدي على حقوقهم؟ إن واقع الحال يؤكد على ما يطرحه العمال من تساؤلات، ويحتاجون لتبرير سلوك الحركة النقابية تجاه حقوقهم وتجاه أرباب العمل، الرافضين الاعتراف بأية حقوق للعمال، ولِمَ لا، فهم موقنون بأن حجم المواجهة معهم لا تُذكَر، ومطمئنون إلى أن الحركة النقابية بخطها وخطتها مع الحوار واللقاء معهم من أجل سماح أرباب العمل بانتساب العمال للنقابات، وتحصيل اشتراكاتهم الشهرية وتحويلها لصندوق النقابات (وكفى الله المؤمنين شر القتال).
إن الاستمرار بهذا الخط النقابي وبهكذا آليات عمل، يعني خسارتها للمزيد من قواعدها التي من المفترض ألا تخسرها، لأن هذا سيضعفها وسيجعلها غير قادرة على أداء دورها الذي يبرر وجودها كحركة جماهيرية للطبقة العاملة، مدافعة عن حقوقها ومصالحها التي هي جزء لا يتجزأ من الحقوق والمصالح الوطنية العليا، التي يجب الحفاظ عليها ضد الداعين لهدمها تحت شعارات الانفتاح والخصخصة والشراكة وحرية الأسواق وغيرها من الشعارات التي وَلَّدت ما نحن فيه، وستعمقه إن استمرت دون التصدي لها ومواجهتها.
إن مسؤولية الحركة النقابية الآن كبيرة، وستتضاعف إذا لم تبادر وتطرح برنامجاً إصلاحياً داخلها يؤمن للحركة النقابية استقلالية قرارها، ويمكنها من تعبئة قوى الطبقة العاملة الكبيرة في مواجهة القوى التي تسعى إلى إحراق البلاد والعباد معاً، وإن تأجيل وتغييب مطالب الطبقة العاملة سيزيد من الهوة الحاصلة بين العمال ومَن هو مفترض أن يمثلهم. وإدارة الصراع مع قوى السوق الآن ليس كما كانت سابقاً، فالصراع أصبح مكشوفاً بين من يريد سلامة البلاد وتطورها وتقدمها الحقيقي، وبين من يريد الذهاب بها إلى عصور غابرة تحمل إلينا التخلف وخسارة ما بناه شعبنا بعرقه ودمه وجهده.
■■