التراث الشعبي.. والوحدة الوطنية

يختزن التراث الشعبي الشفاهي في سورية الكثير من الأمثال والحكم والأقوال والمواعظ والتعابير والسلوكيات التي تؤكد الانفتاح على الآخر، الشريك في الوطن، والتماهي معه، والتأثر الشديد بعقيدته أو بعاداته أو بسمة مميزة له، وهذا أمر طبيعي وموضوعي لأبناء الثقافة الواسعة الواحدة في رقعة جغرافية واحدة، المختلفة في التفاصيل والمنمنمات، وشبه المتطابقة في أساسياتها وبنيتها وأخلاقياتها العامة.

ولعل منطقة القلمون الممتدة على مساحة جبلية كبيرة في ريف دمشق، والمشكّلة من عدد لا بأس من المكونات التي تعكس بعضاً من النسيج الوطني السوري، خير مثال على ذلك، ففي هذه المنطقة المترامية الأطراف التي تتداخل فيها العادات والتقاليد بشكل كبير، ويتوحد فيها الزي الشعبي لجميع المذاهب والطوائف والأديان، وكذلك أسماء العلم، هناك الكثير من الأمثلة التي تؤيد ما نذهب إليه.. وهذه بعض منها:

اعتاد أبناء القلمون على إطلاق قول حينما يشتد الحر وهو: «هز لحيتك يا (أبو) بكر.. هز لحيتك»، والغرض من ذلك أن تهب النسائم.. على افتراض بمنزلة اليقين لديهم أن لحية الصديق أبي بكر تجلب النسيم العليل من الجنة!

لكنهم في الوقت نفسه، إذا ما عصف الهواء المحمل بالغبار، وثارت الزوابع يصرخون: «علي هون.. علي هون»، أي علي هنا علي هنا، على سبيل التهديد، في إشارة إلى الإمام علي، كونه هزم الجن الذي يتهم شعبياً بأنه مثير الزوابع!!!

وبالنسبة، لأيام السنة وفصولها، فإن جميع مناطق القلمون ذي الأكثرية المسلمة، تسمي أيام الربيع بـ«أيام الفصح»، ومعظمهم ما يزالون يحتفلون بهذا اليوم من خلال تلوين البيض، وتوزيعه على الصغار، والتصدق إلى الفقراء.. وكذلك يسمون أيام الخريف بـ«أيام الصليب»، وهناك مثل يقول: «يبقى البرد قايم طول ما المسيحي صايم»، أي لا يتم رفع الأغطية والملابس الشتوية حتى ينتهي الصوم الكبير في الأسبوع الأول من شهر أيار..

والأمثلة أكثر من أن تحصى، فأسماء العلم على سبيل المثال، تتقاطع بصورة كبيرة، ولا تختلف فيما بينها إلا ببعض الأسماء ذات الطبيعة الدينية الخاصة الصرفة، فالأسماء المتناسبة مع الطبيعة القاسية للمنطقة هي ذاتها مثل: ذيب (ذئب)، طعّان، شاهين، هوّاش، نمر... موجودة لدى الجميع، وكذلك الأسماء المأخوذة عن البدو مثل: عقلة، ذياب، وضحة، هدلة، عمشا، كحلا..إلخ.. وحتى الأسماء ذات الصبغة التي تبدو لطائفة دون أخرى تتقاطع كثيراً مثل: عبد الله ومحمود وهاشم وخالد وإلياس وعيسى وسارة وماريا..إلخ..

أما فيما يتعلق بالأغاني والأهازيج فتكاد لا تختلف إلا بالاختلاف النسبي جداً للهجة بين قرية وأخرى، وكذلك طقوس الولادة والعزاء والأفراح المختلفة..

ويصل التناغم إلى أقصاه في تقديس بعض الرموز الدينية الجامعة، فـ«الخضر» على سبيل المثال، هو نفسه القديس «مار الياس»، ومقامه في بلدة معرة صيدنايا يؤمه المسيحيون والمسلمون على السواء، ويقدمون أمامه النذر بصورة تصل إلى حد التطابق، وثمة أهزوجة تغنى عند المقام من أبناء العقيدتين وتقول:

شي لله يا مار الياس.... يا خضر يا بو العباس..

واللافت أن الكثير من النساء المسلمات اللواتي يتأخرن في الحمل يعمدن إلى تعميد أولادهن في الأديرة حال ولادتهن طلباً للبركة، والعكس صحيح، فكثيراً ما تنذر المرأة المسيحية بتسمية وليدها المتأخر باسم «محمد» طلباً للرحمة السماوية.

أما الغريب، فإن الجميع ما يزالون مسكونين بالثقافة الآرامية القديمة التي تتجلى في المناسبات الخاصة كخسوف القمر، حيث يهرع الجميع للدق على المعادن منادين: «يا حوت دشّر قمرنا».. أي دع قمرنا ولا تبتلعه!! وكذلك في فترات الجفاف حيث يخرجون إلى التلال هاتفين بخشوع: «أم الغيث غيثينا.. شتّي على راعينا»! وأم الغيث هي على الغالب الإلهة «عشتار» ربة الخصب، التي لم يستطع أحد أو عقيدة رغم مرور آلاف السنين وجميع الديانات السماوية على المنطقة أن تنتزعها من الثقافة الجمعية والحياة الروحية للناس، وكذلك الأمر بالنسبة للإله «بعل» الذي ما تزال تسمى الأراضي والزراعات التي يسقيها المطر باسمه بوصفه إله المطر..

هذه هي سورية.. شعب واحد، لم تستطع كل المحن والمنعطفات أن تجعل منه شعوباً متنافرة أو متناحرة.. وسيبقى كذلك إلى الأبد.