طارق عبد الواحد طارق عبد الواحد

سرد من أجل سلحفاة 2/2

كنت منذ أيام قد التقيت بلورا ذات الأصول الفرنسية..

الطيور حب لورا الأكبر، وهي تدأب منذ أن كانت طالبة في الجامعة إلى الذهاب إلى وسط مدينة شيكاغو في صباحات أيام الثلاثاء الباكرة، في الساعة الخامسة صباحاً، في فصل الشتاء القارس، لانتشال الطيور الساقطة قرب ناطحات السحاب التي تنتصب في وسط المدينة..

بسبب ارتفاعاتها الشاهقة، وواجهاتها الزجاجية العاكسة، تبدو الأبنية العملاقة كأنها قطعة من السماء.. الأمر الذي يخدع الطيور، المهاجرة في مثل هذه الأيام بسبب البرد النادر، فتصطدم بالزجاج، وتسقط..

تملك لورا تلك الخبرة النادرة في معالجة الطيور المصابة وتطبيبها، ثم إطلاقها ثانية بعد أيام من النقاهة لتتابع مسيرتها إلى الجنوب الدافىء. الطيور حب لورا الأكبر!..

قلت للورا: أنا طير مصاب، وفي يوم ثلاثاء ما ستجدينني قرب واحدة من هذه الواجهات.. فلا تتعبي نفسك بالبحث عن إصابتي.. فأنا مصاب في القلب مباشرة. قالت: في هذه الحالة.. ستطول فترة نقاهتك. فضحكنا جميعاً، ثم تابعت: أنصحك أن تزور طبيباً مختصاً!..

قرأت ثم ترجمت لها نصاً كتبته منذ فترة طويلة، من أجل غوايتها:

«إذا خُيّرتُ أن أكون طائراً/ فسوف أختار بلا شك أن أكون برياً/ أحب أن أكون سنونو/ أريد أن أعبر العالم/../ أنا السنونو الصغير، الأسود، الحزين، اللامع، النادم، النادم/ أتحسر طوال الوقت/ لأنني لم أختر أن طيراً وطنياً/ سميناً، قليل الذكاء/ كي يصطادني الأطفال بأقل حيلة ممكنة/ بأدنى دودة إلى الأرض!!».

 لم تفهم ما أعني تماماً، الأمر الذي أصابني بالخذلان، لكنني عرفت بعد قليل أن الأميركيين لا يصطادون العصافير، حتى أن بعض الحاضرين سألني لماذا تفعلون ذلك؟!..

علقت لورا: على العموم.. فإن طيور السنونو هي الأكثر عدداً بين الطيور التي ألتقطها. قلت لها: أنا محظوظ لأنني لست حمامة أهلية..

كانت بيت لورا مليئاً بالطيور (والنباتات أيضاً)، سألتني وهي تعد القهوة: ما أنواع الطيور الموجودة في بلادك؟ قلت: العصافير..

ضحكت لورا وقالت: العصافير موجودة في كل مكان، يبدو أنك غير مهتم بالطيور. ولمع في ذهني شيء آخر، إذ كنت أريد غوايتها وإدهاشها. قلت: يوجد في البادية السورية طيور جارحة ندعوها الطيور الحرة، وهي تسمى كذلك لأنها لا تطيق الأسر والأقفاص.. إنها تطق إذا وقعت في الأسر..

بدا الاهتمام على وجه لورا: حسناً!.. وتابعت: بعض الناس يصطادون هذه الطيور ويستخدمونها لاصطياد العصافير والحبارى. لكنك قلت إنها تموت إذا وقعت في الأسر. صحيح.. لذلك يقومون بتغطية عيونها بغطاء خاص ولا يكشفون عن عيونها إلا في لحظات الصيد. هل قمت باصطياد العصافير بواسطة هذه الطيور؟. لا،لا.. طبعاً لا، السوريون لا يفعلون ذلك، السوريون يصطادون العصافير بوسائل أخرى، ثم إن السوريين لا يستطيعون شراء هذه الطيور، إنها غالية الثمن، وثمن طير واحد (قلت بمبالغة) أغلى من ثمن بيت. السوريون يفضلون امتلاك بيت، البيت حلم حياتهم!..

بدت لورا وكأنها لا تصدقني، فسألتني: إذن من يقوم بذلك؟ قلت: السوريون يصطادونها ويبيعونها لأمراء الخليج، إنها هواية مفضلة في الخليج! قاطعتني: ولماذا يفضلونها؟ قلت بشكل أقرب إلى الغضب: لا أعرف.. ربما لأنهم يملكون بيوتاً. قالت: ولماذا من الصعب على السوريين أن يملكوا بيوتاً؟ (كان واضحاً أنها لا تصدقني بسبب هذا السؤال السفسطائي) قلت: لا أعرف تماماً، ولكن أظن.. لأنه ليس باستطاعة جميع السوريين أن يصطادوا هذه الطيور الغالية الثمن ويبيعوها ويشتروا بيوتاً بثمنها، هل عندك انترنت؟..

على الأنترنت رأت لورا بعينيها كيف تصطاد الطيور الحرة العصافير والحمام، فظهر عليها الحزن والأسف، وقالت: أنا آسفة.. ظننت أنك تبالغ. قلت: لا عليك. وأكملتُ الخطة: وبالمناسبة لقد قرأت مؤخراً أن مئات الطيور الحرة التي يقتنيها الصيادون أصيبت بالاكتئاب بسبب الأسر، ولم ينجح الأطباء المختصون في علاجها رغم جميع المحاولات الضارية، فاقترح أحدهم أن يتم إطلاق سراحها، ولم يستجب الصيادون لاقتراح الطبيب في البداية، فبدأت الطيور الحرة بالموت واحداً واحداً بسبب الكآبة، عندئذ وافق الصيادون على إطلاق سراحها. وأعادوها إلى سورية؟ قالت لورا باندهاش. قلت: لا، لا.. أطلقوا سراحها في جبال أفغانستان!..

أنت تمزح، قالت

صدقيني، لا..

وكان في بيت لورا سلحفاة لجلب الحظ، أيضاً.. 

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.