نص مضمّد بالشاش والدواء الأحمر
أصعب أنواع المواجهة بالنسبة لكاتب ما، هي مواجهة القارئ. شخصياً أخشى هذا الكائن الافتراضي، لأنني لا أعرف مزاجه في لحظة القراءة، وأكاد أشعر بالرعب حين ينطق بتلك الجملة القاتلة «ماهذا الهراء؟».
ذلك أنني من موقع القارئ، كثيراً ما أردد هذه الجملة، دون رحمة، وبناء على ذلك،أقول لنفسي «احذر المطبات»، لكنني في المقابل أتجاهل جملاً وعبارات خوفاً من الحذف وعدم الصلاحية. هناك إذاً عشرات النصوص المؤجلة في صندوق الدماغ، لا استطيع مراودتها، رغم إلحاحها على التجوال في الهواء الطلق، والتنزّه على الورق. الكاتب العربي على العموم محكوم بجغرافيا مغلقة لا تحتمل التوغل في الكهوف والسباحة في الأنهار: «تكفيك هذه البركة للاستحمام والاسترخاء»، يقولها مخفر الدماغ حاسماً الأمر، وإذا بالورقة البيضاء أو شاشة الكمبيوتر تتضاءل إلى حدودها الدنيا. مسودة الكاتب تحتمل مكاشفات كثيرة، وفضائح سرّية، يصعب ظهورها إلى العلن: لنشطب هذه العبارة، أو لنبحث عن بديل أكثر زئبقية، وهكذا تنهار جدران النص بالتدريج، وإذا به، في نهاية المطاف، يشبه جسداً مسجى في غرفة التشريح. قد تكون بهجة الكاتب الحقيقية تتجلى في سرقة مفاتيح الغرفة المغلقة والطواف بين كنوزها المخبوءة. في حكايات «ألف ليلة وليلة» توجد غرفة مغلقة على الدوام، ينصح بألا يدخلها أحد، لكن المغامر سوف يتسلل إلى هذه الغرفة لاكتشاف السّر، لعل هذا ما يفعله الكاتب الجيد، ولكن ماذا لو لم يتمكن من سرقة المفتاح من جيب الحارس المتيقظ؟
في جغرافيات أخرى، لا توجد غرف سرية في الكتابة، وتالياً لا ممنوعات أو محظورات. هكذا نعجب برواية ما مترجمة عن لغة أخرى، ونحسد الروائي على كمية الجرأة والمكاشفة التي يتمتع بها، لكنه في الواقع، لم يفكر للحظة واحدة مما نفكر به نحن في الشرق العظيم، طالما أن ضمير المتكلم شبهة، وأفعال البطل (الشائنة؟)، هي إحدى صفات المؤلف بالضرورة. هذا ما يخص الكاتب، أما الكاتبة فمصيرها أشد مضاضة وقسوة.
إنها ضريبة إجبارية، لابد من دفعها سلفاً، خصوصاً أن بعض «المثقفين» أنفسهم، يدين أي انزلاق شهواني في النص، فما بالك بالقارئ العادي؟
لا تنتهي مكابدات الكاتب في تضميد جراح النص بالشاش والمطهّرات الطبية، فهناك من ينتظره في أول منعطف ليحاسبه على أية عبارة ملغومة، أو فاصلة، أو إشارة استفهام. هكذا فإنه لا يمر شهر على بلاد العرب أوطاني، إلا ونقرأ عن منع هنا، وحجز كتاب في مرفأ هناك، وسحب كتاب من معرض، والسماح به في معرضٍ آخر، إضافة إلى فتاوى بالجملة في تنكيل أي نص يحاول أن يخرج عن السرب، حتى ولو بأجنحة اصطناعية. أليس المبدع العربي اليوم في حصار دائم (براً وبحراً وجواً).
عبارة «الحكي ما عليه جمرك»، لم تعد صالحة للتداول، إذ أن أي «حكي غير شكل» يخضع لجمرك من الدرجة الممتازة، مما يحوّل أي نص إلى طائر منتوف الريش لا يستطيع التحليق أبعد من سور القفص.
لعل المبدع العربي اليوم يشبه سلفه عباس بن فرناس الذي ما إن هم بالطيران حتى لاقى حتفه على الفور.
انتبه، إذا كنت ترغب بأن تكون كاتباً استثنائياً، فسجّل اسمك في قائمة المرشحين للانتحار، أو اختر اسم كاتب ياباني وانتحر على طريقة الساموراي.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.