خليل صويلح خليل صويلح

«أسبرين» ليالي الأرق

خلال شهر تقريباً، «أجهزت» على نحو خمس روايات عربية جديدة، حتى إنني نسيت إلى من تنتمي هذه الشخصية أو تلك، الأمر الذي يطرح سؤالاً جوهرياً: إلى أين يذهب ما نقرؤه، وما الذي يتبقى في «الصندوق الأسود» للدماغ؟

لاشك أن صفحات بالجملة ستُنسى، ولعل ما يتبقى.. جملة هنا، وعبارة هناك، وموقف مؤثر هنا، ولقطة حميمة هناك.

إحدى الروايات رافقها ضجيج إعلامي باعتبارها «ممنوعة»، بعد طول عناء حصلت على نسخة منها. كانت ثقيلة حقاً ( بالوزن طبعاً)، صراحة كانت أشبه بالعقوبة بالنسبة لي، وحسب مقاييسي الشخصية، كان بمقدوري تحويلها إلى ثلاث روايات، نظراً لضخامتها، ويبدو أن مؤلفها ليس له علاقة بالعبارة المأثورة «البلاغة في الإيجاز». ورغم أن الرواية تدّعي رصدها للمناخ الثقافي المحلي بنزاهة، إلا أنها كانت على الأرجح، فرصة للضغينة والانتقام من أشخاص وهميين أو افتراضيين، ذلك أن المؤلف «يخترع» مناخاً غير موجود في الوسط الثقافي في الأصل، حتى إنني اعتقدت لوهلة أننا نعيش في إمبراطورية إعلامية، لكثرة المؤامرات والدسائس والخيانات والمطاردات البوليسية، في حين أن المحررين الثقافيين، في الواقع، يتثاءبون بضجر بانتظار ما يحرّك المياه الراكدة في صفحاتهم. هكذا كان عليّ أن أعالج الضجر بالالتفات إلى رواية أخرى، ثم أعود إلى «الإلياذة السورية» إلى أن ختمتها أخيراً، وأزحت همّها جانباً (لن أذكر اسم الرواية لأنها ممنوعة بالطبع).

سحر مندور أهدتنا رواية لطيفة بعنوان «حب بيروتي». عمل سلس يخلو من الادعاء، ويكشف عن براعة في التقاط المهمل وشحنه بمعطى تخييلي يقوده إلى مناطق روائية نائية، على رغم تكرارها في الحياة اليومية بأشكال مختلفة. علاقة غرامية تكشف نمط التفكير الشرقي ببضع عبارات («قالت لي: «تعى نتجوّز»، فكان أوّل ما تبادر إلى ذهني: «ترى، بوابة البناية مفتوحة؟»)، وتنتهي العلاقة بالفراق ودّياً، بعد أن جرّب العاشقان خوض علاقات جديدة لاكتشاف الفرق. هذه قصة حب تنتهي بدعابة على خلفية أغانٍ لأم كلثوم وعبد الحليم وفيروز وليلى مراد.

«الحفيدة الأميركية» لإنعام كجه جي، تذهب مباشرة إلى عراق ما بعد الاحتلال بعين مترجمة أمريكية من أصل عراقي، رافقت جنود الاحتلال ورصدت عن كثب ما يحدث من فظائع يتجاهلها الإعلام. إنها رواية الشجن الخالص في بلاد منهوبة ومرتهنة للأكاذيب ولعنة بوش.«انتهى عقدي مع الجيش، ولم أجدده. عدت من بغداد بهذه الحصيلة. شجن مثل عسل مصفّى. ثقيل ولزج وشفاف، يفيد في ليالي الأرق».

مع سحر خليفة في روايتها الجديدة «أصل وفصل» نستعيد فلسطين في ظل الانتداب البريطاني، وبداية مخاض جديد بدأ يتبلور تدريجياً حول فلسطين ما بعد الانتداب. هناك تفاصيل عن حياة المجتمع الفلسطيني في مطالع القرن العشرين،لم تكترث بها الرواية الفلسطينية قبلاً. بانوراما لبشر يرزحون تحت وطأة الفقر، وآخرين دخلوا لعبة التواطؤ مع اليهود كتجّار، لكن أهم ما تنطوي عليه الأحداث هو وصف حال النساء في ذلك الزمن، والصراع بين من تلبس البرنيطة الأوروبية، ومن تضع غطاء الرأس، وبداية التململ من وطأة التقاليد البالية والتطلع إلى ما هو حضري، بعيداً عن الصراع المباشر حول الأرض. كأن الرواية العربية اليوم تعود مرة أخرى إلى الأسئلة الأولى. تنبش أسباب التخلف وفشل برامج الأحزاب في تحقيق شعاراتها. ألم يكتب صنع الله إبراهيم أخيراً عن«القبعة والعمامة»؟

هكذا يجد الروائي العربي نفسه فوق أرض زلقة لا تقوده إلى يقين.

آخر تعديل على الثلاثاء, 02 آب/أغسطس 2016 12:49