«كلام حريم»: انحراف في الرؤيا

يسعى الفيلم التسجيلي «كلام حريم» الذي عُرض في مهرجان «أيام سينما الواقع» إلى تقديم صورة مقرّبة لواقع المرأة الريفيّة في سورية من خلال قرية «زور شمّر» في مدينة الرقة السورية.

الفيلم (أنتج عام 2006 بتمويل من «صندوق الأمم المتحدة للتنمية والسكان» وبالتعاون مع «وزارة الإعلام» في سورية، ثم منع من العرض) مرافعة عن حقوق المرأة الريفية المنكوبة في بيتها وحياتها، والمحرومة من الأمان والاستقرار، بسبب الهيمنة الذكورية التي لا تُبقي ولا تَذر، فالذكور الأوغاد الذين لا يفعلون شيئاً سوى الجلوس إلى قهوتهم في المضافات نظيفين ومرتاحين، ليتحدّثوا عن أوضاع النساء الممتازة، مع أن  كثيراً منهم متزوّج من أكثر من امرأة، بينما يأكل التعب والغبار من أجساد النساء وأرواحهن، فهن العاكفات على كل تسيير كل شؤون الحياة، بدءاً من الزرع والرعي وانتهاء بأعمال المنزل..

سيبدو مثل هذا الكلام سقيماً وأجوفَ وبلا معنى حين تنحصر المشكلة في ثنائية، في مستويين، الرجل والمرأة، لأن الأجدى، خصوصاً في المجالات الفنية، هو الكشف عن البعد الثالث، وعلى العموم لا تنجو الأعمال الفنية السورية من هذا اللُبس في مختلف المواضيع التي تتناولها.

يمتاز الفيلم بلغته الفنية الخاصة التي تجعل تبرز أكثر ما تبرز في طريقة المونتاج التي تؤكّد مقولة العمل، لكن الذي يُشْكِل حقّاً هو الرؤيا الفكرية، فالخطأ الكبير الذي يرتكبه شريط عدنان عودة وسامر برقاوي هو إدانة للرجل بوصفه صاحب الظلم الأكبر، وحامل العبء الأخلاقي الأعظم في انتهاك المرأة، بتحويلها إلى أداة عمل وتفريخ فقط، فيما يأتي الظلم مضاعفاً حين تصبح منطقة الجزيرة، محور العمل، نموذجاً لهذا الظلم، لأن هناك من سيقرأ وفق السياقات الاجتماعية البليدة التي ترى إلى المشكلة أنها مشكلة تتعلّق بـ«الشوايا» (كما هي التسمية العنصرية الدراجة لأهالي الجزيرة السورية).

لا شكّ أن الذكورية بما تحمله من معانٍ سلطوية وتسلطية مرفوضة كليّاً، لكن المنطق يقول إن مكمن الخلل الجوهري ليس في الذكورية، بل في بقائها حاضرة بهذا الجبروت، والسبب غياب المشروع التنموي الحقيقيّ الذي لا يستثني مكاناً لمصلحة آخر، وربما لو كان هذا المشروع موجوداً بشكل اقتصادي لانعكست آثاره، بالضرورة، إنسانياً واجتماعياً. لذا بغيابه، كما هو حاصل الآن، ستكون الإدانة موجهةً لمن غيّبوه، لا لمن غاب عنهم، لمؤسسات الدولة التي تجاهلت إقليماً كاملاً وتركته مأسوراً لما قرّ ورسخ فيه من عادات وقيم لتحلّ محل القانون وفكرة الحقّ، ذلك أن وضع القيم العصرية في حيز الفعل لا يمكن أن يتم دون مشروع شامل، يتكفّل بإحلالها واستمرارها، وهذه مهمة مؤسسات الدولة، أما والحال على ما هو عليه فإنه من غير المقبول أن يتحوّل الريفيّ إلى مدان، وأن يصبح مثاراً للسخرية، وأن يتم تناوله بدون الحد الأدنى من الحب. المتهم الحقيقي الغائب عن ذهن صانعي الفيلم هو من يجعل من الجميع، نساءً ورجالاً، ضحايا.