بين قوسين: ملء الفراغ... إلكترونياً
تعاطى كثيرون، مع الـفيس بوك (facebook) أول ظهوره، بوصفه (صرعة) تافهة ومشبوهة، لن تلبث أن تفقد بريقها سريعاً لتحل محلها (صرعة) أخرى، وراحوا يرمون المتحمسين للدخول إلى هذا العالم الافتراضي بالتفاهة و(قلة العقل)، وأحياناً بتهم أكثر إيلاماً، لكن مع الإقبال الكبير والمتزايد واليومي على الاشتراك في هذا الموقع، شكّل ذلك، وخصوصاً لدى بعض (الرسميين)، ظاهرة (خطيرة)، أو بالحد الأدنى (غير مفهومة)، وبدوا مذهولين أمام اندفاع الناس من مختلف الشرائح العمرية، بمختلف مستويات تعليمهم وثقافتهم، للانخراط فيه.
ورغم محاولة الجهات ذات الصلة حجب الموقع لأسباب لا تُعلن صراحة، ورغم كل ما يقال عن الأدمغة والأيدي الصهيونية التي تتوارى خلفه وتحصد معلوماته، ما زالت صور الناس وأسماؤهم، بمن في ذلك أسماء وصور الكثير من المشاهير كتاباً وفنانين، تتزاحم لاحتلال (حائط) على هذا الموقع الحواري العابر للحدود.. فما سر ذلك؟
يتأتّى الإقبال الهائل على الـ(facebook)، وخصوصاً في أوساط الشباب المتعلمين، والمثقفين وسكان المدن، من كون الموقع يشكّل فسحة سهلة وغير محدودة أو مسقوفة للتعارف والتواصل والحوار والبوح والانفتاح على الذات، وعلى الآخر من خلال الكتابة، وهنا تكمن أهمية الموقع وخطورته في آن معاً، فالذات في بلادنا بالعموم منهكة، متهتكة، ضعيفة ومنكّل بها ومتعطشة لمعظم حاجاتها الإنسانية، أما الآخر فيمكن أن يكون أي آخر، بمن في ذلك العدو نفسه أو عميله.. وهذا ما يتخذه الرقيب الإلكتروني الساذج وأحادي النظر والفكر والسلوك ذريعة لحجب الموقع، ولكن دون جدوى، فوسائل التحايل الإلكتروني وقهر الحجب أصبحت أوسع من نظم وآليات السيطرة المركزية، فكيف إذا كانت مدفوعة أساساً برغبة جامحة في الخروج من الواقع البائس إلى الفضاء الافتراضي الرحب؟ فالموقع يتيح افتراضياً إمكانية ممارسة حالات عشق، وخلق صداقات، وتشكيل مجموعات من أنواع مختلفة، وإرسال الرسائل دون جهد، ونشر الصور والمقالات وطرح الأسئلة، والتباذؤ والصراخ... وما أكثر الباحثين عن الحب في بلادنا، وما أكثر المخذولات والمخذولين اجتماعياً وعاطفياً، وما أوسع الراغبين في الانعتاق والبوح والتعبير عن الذات!
في مجتمعات تمضي، عكس حركة التاريخ، إلى الانغلاق والتزمت والتعسف، ومع غياب أو هشاشة القوى الاجتماعية المستنيرة، ومع ارتفاع مستوى الفقر والبطالة والكبت بأشكاله المختلفة، ومع ضيق الصدور وضيق الآفاق وتضاؤل الهوامش، يحضر الـ(facebook) بقوة ليعلن تضامنه، ولو على سبيل الخديعة، مع الناس، وسواء كان مشبوهاً يأتمر للعدو ومخططاته، أو يعمل كالمخدّر لتنفيس الغضب والألم على الورق وفي فضاء وهمي، أو يدفع للغرق في الترّهات، فإنه حتى الآن، جذّاب وقوي وشديد الإغواء، ولن تنفع كل الوسائل الكلاسيكية في منعه وحجبه، أو إيقاف الاندفاع الاجتماعي الكبير نحوه، وإذا كان هناك من يحرص حقاً على سلامة وأمن الوطن، ومن يخشى على الناس عموماً والشباب خصوصاً من عشق الوهم والغوص عميقاً في اللاواقع، فليعمل جدياً على جعل الواقع أقل سوءاً ووحشة.. وليكف عن اختراع وترديد الشعارات الجوفاء التي ليست لديه لا الإرادة ولا الرغبة لتحقيقها.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.