موقع «كأنك يومي الأخير» من الحداثة
هناك سؤال يخطر على بال قارئ «كأنك يومي الأخير» لينا تقلا (دار الينابيع ـ دمشق) ألا وهو: هل الديوان قصيدة واحدة؟ والداعي إلى هذا السؤال هو عدم وجود العناوين، إنما توجد نقاط بين القصيدة والقصيدة، ونحن لا نعلم لماذا تصرفت الشاعرة هكذا.. ونعتقد أن هذا لا يعرفه إلا هي، فهل هذا تطور معين في عدم عنونة القصيدة؟ وخلال القراءة اكتشفنا أن كل القصائد تنتهي عند النقاط.. إذاً نقول: إن الشاعرة حرمتنا متعة مشاركة العنوان في رفع سوية القصيدة مع أنه يعني الإشارة والإيماء، والتشويق، والتصوير وغير ذلك.
أزمان الديوان متعددة منها:
أ - الزمن المطلق.
ب - الزمن العادي.
ج - الزمن الاستباقي...
ولكل زمن تجلياته فيه، وكان الزمن المطلق والاستباقي هما المتجليين أكثر من الزمن العادي، وهنا يبرز الفعل المضارع خلال الحاضر والآتي في أكثر قصائد الديوان... أما الزمن العادي والماضي المتمثل بالفعل الماضي فقد تأخرا عن البروز.
أما عن التوهج الشعري الذي يتجلى بالشاعرية، فلم يرق إلى آفاق عالية أو لم يظهر كما يلزم، هناك شاعرية ولكنها كانت في مقاطع قليلة.. وهذه الشاعرية التي كان يجب أن تكون عالية في كل القصائد أثرت على شعرية الديوان وخففت من توهجه.. وقد يكون لأسلوب الشاعرة المباشر في كتابة القصيدة الأثر الكبير في الحد من توهج القصيدة ورفع شاعريتها، فأسلوبها مباشر في أكثر قصائدها، فحين نقرأ القصيدة نعرف مبتداها ونهايتها، خاصة أن الشاعرة ركزت على موضوع الحب، فمن البيت الأول أحياناً نعرف النهاية، وبرأيي أن القصائد غير المباشرة أجمل وأحلى وتعطي جماليات فنية راقية، وإذا أحصينا القصائد غير المباشرة نجد أنه من مجموع حوالي (125) قصيدة هناك عشرون قصيدة فقط غير مباشرة.
أكثر البدايات في القصائد بدايات جيدة، وهذا بحد ذاته عمل جميل ويعني تركيز الشاعرة على هذه البدايات وإظهارها بمظهر فني، أمنا النهايات التي يفضل أن تكون مفتوحة في القصيدة الحرة وأن تترك معرفة معانيها للقارئ فهي في غالبيتها مغلقة، ومعروفة المعنى، ويمكن أن يكون للأسلوب المباشر أثر في ذلك، فنهاية قصائدها ما تريد دون كد من القارئ أو تعب كي يكتشف ويمتع بلذة الكشف.
أما عن الإحالات في القصائد فهي إحالات إيمائية مثيرة... تعطي بقصدية لا تختلف من قصيدة إلى أخرى، ففيها الشرح والتعليل، والتراصيف، وبناءات متناسقة وبعيدة عن الإطلاق.
غلب الضمير الغائب على الضمائر الأخرى في الديوان مع أن سمة الشعر الأساسية هي الوجدان والسرانية والتوحد، وهذا يقتضي التحدث بالأنا أي الضمير المتكلم فهو أقرب لروح الشعر وتعبيراته، فهذا الشعور العالي بحركة الأشياء وتداخلها ومسيرتها هو شعور ذاتي محض، هو شعور الشاعر الذي يكتشفه ويحاول نقله إلى غيره.. الشعر المتوهج يبتعد دائماً عن التفسير والإيضاح أو تكرار المعنى بشكل ما، وبما أن الصفات تحمل هذه القضايا في كل أبعادها إلا ما ندر، فهي كلها غير ضرورية لأننا لا نأخذ بالنادر من هذه الصفات، وينطبق هذا أكثر على الصفات التي توجد في القصيدة الحرة ـ قصيدة النثر ـ فالتفسير يقلل من شاعريتها وتوهجها، وهكذا فالصفات الموجودة في الديوان (كأنك يومي الأخير) هي صفات لا ضرورة لها، والأمثلة على ذلك كثيرة.. نورد منها هذين المثالين:
وتركتني كناي مصلوب في خباء / لاتعبره/ سوى الريح المغبرة... ص46.
فهنا صفتان غير ضروريتين هما مصلوب ـ المغبرة .. فماذا للقارئ نفسه ماهية الناي وماهية الريح، ولو أوردنا الجملة دون الصفتين، لرأيناهما أحلى وأمتن، وهكذا هي كل الصفات.
في الديوان بعض الإدهاشات الجميلة ومنها:
أهدهد أحلام أربعين يوماً/ وخزانتي كلما نقصت مالت إلى الكمال/ كأنها لا تفنى. ص111.
إدهاش يرتفع بنا إلى عالم الحلم البعيد البعيد، ويأخذنا إلى عوالم لا نعرفها سابقاً إنها عوالم جديدة غير مرئية... وفي الديوان أيضاً مفارقات شاعرية حلوة، أضافت إليه جماليات خاصة ومنها:
عن كل يمجد/ قطفت نجمة السماء/ الطازجة/ فونت الليل بالأيائل... عن غير عمد/ فتحت غمازتك للمدى/ اشتغلت الأيائل/ ونامت المسافرة/ في فندق أليف.. ص93.
مفارقة فيها الإحساس بالأشياء المكتشفة المتباينة من الحركة والصمت، والوقوف، والمسير والترحال والإقامة كل ذلك عبر شاعرية رقيقة.
أوردت في أول الكلام على أن الصورة الشعرية في أي ديوان أو عمل شعري هي المعيار الأول من معايير الشعر، وفي الديوان صور شعرية لا بأس بها ولكنها قليلة، وهذه الصورة عالية الشاعرية ترتقي بنا إلى عوالم الكشف والرؤيا المطلوبة من الشعر. وهذه بعض الصور الشعرية:
أشعلنا جنون الليل/ ونحن نفتق صور الوجد/ لنعيد خياطتها. ص38.
لي نبع خذلته الأيائل/ وقميص ريح/ يفتش عمن يرتديه ص55.
أعبر عريين/ لألتقي البرد أو الدفء/ أرتق لغتي المائلة/ أسحب عصفوري من تحت شرشف الخوف. ص105.
عنوان الديوان لا باس به، يشارك قليلاً في عمل القصائد، ولو أننا كنا نتمنى أن يكون أحلى.. نشد على يدي الشاعرة لينا تقلا، ونتمنى أن ترفدنا بدواوين أخرى.