صفقة و«قرار جديد».. خذ الحكمة من «رجل المستنقعات»!
ريم عيسى ريم عيسى

صفقة و«قرار جديد».. خذ الحكمة من «رجل المستنقعات»!

تبدو السياسة الأمريكية اتجاه سورية، على السطح، مصدر إرباكٍ للكثيرين؛ أفراداً وقوىً ودولاً؛ بل ويذهب البعض في التعمية مذهباً أبعد، ومنهم مسؤولون أمريكيون حاليون وسابقون، بالقول: إنّ واشنطن ليست لديها سياسة محددة اتجاه سورية، أو أنها ليست لديها سياسة بالمطلق اتجاه سورية، سوى بضع نقاط عامة، هي جزء من ملفات أكبر تتعلق بمجمل الشرق الأوسط.

من الدولي إلى المحلي، وبالعكس!

ينبغي الإقرار بداية، بأنّه من الصحيح تماماً أنّ الولايات المتحدة، بل وكل الدول الكبرى، تتعاطى مع الملف السوري بوصفه جزءاً من حزمة متكاملة تتعلق بكامل منطقتنا؛ ليس بسبب الارتباط المتبادل والعميق بين ملفات المنطقة فحسب، بل ولأنّ حجم تأثير الدول الكبرى وحجم الصراع الدولي الجاري، يفترضان النظر إلى هذا الإقليم بأسره والتعامل معه، بوصفه مسرح عمليات واحد.
وإذا كان ترتيب الأولويات بالنسبة للدول الكبرى، في تعاملها مع أي ملف، يبدأ من العالمي فالإقليمي فالمحلي، فهذا لا يعني بحال من الأحوال أن الترتيب العملي للأهمية والتأثير يسير بالطريقة نفسها، بل بالعكس تماماً!
كي تكون الفكرة التي نحاول قولها أكثر وضوحاً، نستذكر هنا أنّه منذ انتفاء أو تراجع احتمالات الحروب المباشرة مع تسيّد السلاح النووي، بات الصراع العالمي يعبر عن نفسه عبر المساحات الإقليمية، ومن ثم عبر المساحات المحلية، أي على مستوى البلدان المنفردة. وبات حسم الصراعات الكبرى نفسها يمر عبر حسمها بالنقاط لا بالضربات القاضية، والحسم بالنقاط يمر بالضرورة عبر المساحات المحلية بالدرجة الأولى...
وإذا كان الحديث عن بلد مفتاحي مثل سورية، يمكن لمصيره أن يحدد مصير إقليم بأكمله، هو أحد أهم وأخطر الأقاليم في العالم، يصبح من المفهوم والمحسوس، لماذا تحمل الأزمة السورية هذا القدر من التعقيد والتشابكات وكأنها قد باتت مركز الصراع الدولي بأكمله؟ بالطبع فإنه لا حاجة للمبالغة في هذا الشأن؛ لأنّ هنالك بضع مساحات أخرى في العالم تشابه إلى هذا الحد أو ذاك وضع سورية ضمن الصراع الدولي، ولكن بالتأكيد لا يمكن القبول بالتهوين والتقليل من أهمية الصراع في سورية وعليها، أو القبول بالأكاذيب الأمريكية التي تدّعي أنّ الملف السوري لم يعد بين الأولويات، أو أنّه بات ثانوياً مقارنة بملفات أخرى.
بكلامٍ آخر، فإنه ينبغي الانطلاق من حقيقة، أن الملف السوري لا يمكنه أن يكون ثانوياً بالنسبة لواشنطن في أية لحظة من اللحظات، ومن ثمّ التعامل مع ما تقوله الولايات المتحدة وإعلامها ومسؤولوها حول «تراجع أهمية الملف السوري بالنسبة للإدارة الأمريكية»، بوصفه «سياسة إعلامية» و«تكتيكاً» ينبغي البحث عن معانيهما وأهدافهما، انطلاقاً من الحقيقة السابقة بالذات، أي من أهمية الملف السوري ضمن الصراع الدولي... وما قلناه هنا ليس استنتاجاً فريداً، وليس اختراعاً للعجلة، بل هو أمرٌ شديد الوضوح بالنسبة لكل الفاعلين الدوليين والإقليميين، بل وحتى المحليين إلى هذه الدرجة أو تلك؛ ولكنّ الحجم المهول للأكاذيب التي تلقى على رؤوس الناس بشكل يومي، يدفعنا للاعتقاد بأنّه من الضرورة بمكان استذكار أساسيات من النمط الذي عرضناه أعلاه.

وقفة مع «رجل المستنقعات»

بعيداً عن العموميات، قد يكون مفيداً الوقوف مع المقال المطول الذي نشره المبعوث الأمريكي السابق إلى سورية جيمس جيفري يوم 13 من كانون الأول الجاري في فورين أفيرز تحت عنوان: «لا يزال ممكناً إجراء صفقة بخصوص سورية، ولكن على واشنطن أن تكف عن تجاهل الصراع»... حتى ابتداءً من العنوان، يذهب جيفري مذهب التضليل الذي أشرنا إليه سابقاً بالادّعاء بأنّ «واشنطن تتجاهل الصراع»، وهذا ليس إلا تعبيراً آخر عن الكذبة نفسها القائلة بأنّ سورية لم تعد ضمن «قائمة أولويات الإدارة».
ما يستحق النظر فيه باعتقادنا، هو ناقوس الخطر الذي يقرعه جيفري في مقاله هذا حين يتحدث عن أنّ الاستمرار بالسياسة الأمريكية الحالية (أو عدم وجود سياسة حسب ادعائه)، قد يقود إلى ما أسماه «زعزعة طويلة الأمد للشرق الأوسط». ومن المفهوم أنّ الزعزعة من وجهة نظر واشنطن قد تعني ببساطة الاستقرار من وجهة نظر شعوب المنطقة. يتضح ذلك أكثر مع حديث جيفري عمّا قد يحمله انتصار روسيا والصين في سورية من تأثيرات على الدول الإقليمية في المنطقة، وبخاصة تركيا، التأثيرات التي قد تصل حدّ جنوح تلك الدول بشكل نهائي بعيداً عن الاصطفاف الغربي... وهذا بلا شك «زعزعة كبرى» لأمن الولايات المتحدة ومصالحها.
المثير للسخرية في هذا السياق، هو التناقض الواضح الذي يقع فيه جيفري أثناء حديثه عن «احتمال انتصار» الطرف المقابل؛ فمن جهة يربط الانتصار بـ«الأسد وروسيا وإيران»، ويقول: إنّ ذلك سوف يشجع «الدكتاتوريات حول العالم»، ثم لا يلبث أن يقول: إنّ إدارة ترامب كانت قد بدأت بالعمل على صفقة مع «الأسد» نفسه ومع روسيا، وهو نفسه كان صقراً من صقور تلك الإدارة.
ضمن انتقاده للسياسة الحالية، وتقديمه النصيحة حول ضرورة عقد صفقة، يترك جيفري مسألة الدكتاتوريات جانباً، ويستذكر كيف أن ترامب قام «بدفع الروس من أجل حلٍ وسط يقوم بشكل عام على إنهاء الضغط الدولي، ولا سيما العقوبات، وقبول الأسد مقابل تنازلات بشأن القضايا الجيواستراتيجية».
علينا أن نتذكر جيداً، أنّ المرحلة التي ساد فيها شعار «تغيير سلوك النظام» وليس «إسقاطه»، هي مرحلة ترامب بالذات. وهي المرحلة نفسها التي شهدت عقد صفقات، التطبيع والتوقيع على «صفقة القرن»، والأمران كلاهما عنوانان أساسيان لا يخصان السياسة الأمريكية اتجاه سورية فحسب، بل واتجاه الشرق الأوسط ككل. لا يمكن أن ينسى المرء أيضاً، الرسالة التي أعلن ترامب عن توجيهها إلى «الحكومة السورية» وليس إلى النظام السوري، وطلب فيها «فتح حوارٍ مباشر» للمساعدة في الوصول إلى معرفة مصير الصحفي الأمريكي أوستن تايس!

قرار جديد من مجلس الأمن!

مع اقتراب جيفري من نهاية مقالته، حيث عليه أن يقدم اقتراحه الملموس بعد أن قدّم تشخيصه للوضع ولاحتمالاته، تظهر اقتراحاته بوصفها سلوكاً فعلياً تنتهجه الإدارة نفسها التي ينتقدها، (مع هامش اختلاف، هو اختلاف موجود فعلاً كما يبدو ضمن الإدارة نفسها سنأتي عليه تالياً). يقول جيفري: «على إدارة بايدن أن تسعى إلى خفض التصعيد خطوة بخطوة من كلا الجانبين»، ومن ثم عليها السعي نحو: «قرار جديد من مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، يجب أن يبرم رسمياً أية صفقة ويفرض رقابة على التزامات كل جانب».
مرةّ أخرى، يضع جيفري جانباً مسألة «الدكتاتوريات- وزعزعة الأمن»، ويطرح صفقة مع هذه الدكتاتوريات نفسها، ولكن ليست أية صفقة؛ ينبغي أن تكون صفقة يقرها قرار جديد من مجلس الأمن، أي قرار آخر غير 2254 الذي لم يأت جيفري على ذكره في مقاله نهائياً، وهذا الأمر ليس مصادفة إطلاقاً.
هذا الاتجاه ضمن الإدارة الأمريكية، أي اتجاه الالتفاف على القرار 2254، وضمناً على الحل السياسي الذي يمكنه أن يقود نحو استقرارٍ حقيقي لسورية وللمنطقة (أي نحو زعزعة المصلحة الأمنية للولايات المتحدة)، هو اتجاه ثابت منذ إقرار القرار نفسه نهاية 2015.
ناقوس الخطر الذي يقرعه جيفري حالياً، هو أنّ تبايناً أكبر قد بات أمراً واقعاً في مؤسسات صنع القرار الفعلية ضمن الولايات المتحدة، والتي بات ضمن حساباتها الجدية الأمور التالية، والتي يمر جيفري عليها بشكل غير مباشر في مقالته نفسها:
1- استمرار تعليق تطبيق القرار دون خلق بدائل، وإن كان قد خلق مستنقعاً في سورية، إلا أنه ليس من الواضح إن كان ذلك المستنقع قادراً فعلاً على إغراق الروس والصينيين.
2- بالكلمة والحرف وفقاً لجيفري: «حتى الجهود الفاشلة لتحقيق انفراج بشأن سورية من شأنها أن تعزز الدعم الإقليمي لموقف واشنطن البديل، مما يحافظ على حالة الجمود التي تحرم إيران وروسيا من تحقيق نصر استراتيجي».
3- أخطر من ذلك أن استمرار تعليق الوضع، إذا كان بطريقة لا تضمن «إفشال جهود تحقيق انفراج» كما تكشف الفقرة السابقة، فإنه سيؤدي مع الزمن إلى مزيد من التقارب بين روسيا وتركيا وإيران، وحتى الصين بما يخص هذا الملف. وهذا أمر يحمل أخطاراً كبرى من وجهة نظر الولايات المتحدة.
4- استمرار تعليق الملف يفتح الباب أمام احتمالات تمرير القرار الدولي نفسه 2254، وبمشاركة ضعيفة أو بعدم مشاركة واشنطن، لذا يجب الدفع نحو البديل.
5- هذه الاحتمالات «الخطرة»، أي احتمالات تطبيق 2254، تتناقض مع ترتيبات «الفوضى الخلاقة» و«الناتو العربي» و«الشرق الأوسط الجديد»، ولذا ينبغي الانتقال نحو وضع كل الأوراق على الطاولة سريعاً، لا لعقد صفقة مع روسيا، بل لعقد صفقة إقليمية محددة تتضمن تطبيعاً و«تغيير سلوك» واستمالة لتركيا حيث يمكن، وجرّ الروس إليها لاحقاً بوصفها أمراً واقعاً يتطلب «قراراً جديداً من مجلس الأمن الدولي».
هذا كلّه يعني أنّه على الجانب المقابل أن يعمل بسرعة أيضاً، وفي الاتجاه المعاكس: أي باتجاه تطبيق القرار 2254 كاملاً، سواء رغبت الولايات المتحدة بالانضمام إلى هذه العملية أم لم ترغب.

(English version)

معلومات إضافية

العدد رقم:
1049
آخر تعديل على الأحد, 26 كانون1/ديسمبر 2021 00:08