الدَّين كأداة هيمنة: صندوق النقد الدولي ووضع الأرجنتين تحت رحمة رأس المال العالمي

الدَّين كأداة هيمنة: صندوق النقد الدولي ووضع الأرجنتين تحت رحمة رأس المال العالمي

في ظل أزمة اقتصادية عميقة، تحوّلت الأرجنتين إلى مختبر حي لنموذج هيمنة رأس المال العالمي، بقيادة حكومة خافيير ميلي، التي تُعدّ امتداداً منهجياً لمشروع الليبرالية الجديدة، مدعومةً بصندوق النقد الدولي (IMF) كأداة سياسية أكثر منها اقتصادية. فبينما تُقدّم هذه المؤسسة نفسها كمُنقذ للدول المتعثرة، فإن واقعها يكشف عن دورها كأداة لفرض هيمنة سياسية واقتصادية تخدم مصالح النخب المالية العالمية على حساب الشعب.

ديفيد باركين وخوان سانتاركانخيلو
عن مجلة المراجعة الشهرية بتصرف

منذ تولّي ميلي السلطة في كانون الأول 2023، طبقت حكومته برنامجاً جذرياً يهدف إلى تفكيك دولة الرفاهية: إلغاء البنك المركزي، تسعير الاقتصاد بالدولار، إلغاء الدعم على الطاقة والماء والنقل، وخفض الإنفاق العام بإجراءات قسرية عبر مراسيم طارئة (DNU). هذه الإجراءات، التي صيغت بمساعدة شركات قانونية تابعة لرأسمال محلي ودولي، أدت إلى انكماش اقتصادي حاد (18% في البناء، 10% في الصناعة)، وارتفاع التضخم إلى 25.5% في ديسمبر 2023، وفقدان الرواتب التقاعدية أكثر من 20% من قيمتها الشرائية خلال عام واحد. كما شهدت الصحة والتعليم والبحث العلمي تدهوراً مأساوياً: إغلاق مستشفيات نفسية، نقص حاد في أدوية السرطان والإيدز، وتقليص ميزانيات الجامعات، وصولاً إلى انسحاب الأرجنتين من منظمة الصحة العالمية.
لكن الأهم من هذه الإجراءات هو التحول السياسي: فقدت الأحزاب التقليدية مصداقيتها، بينما تخلّت معظم النخب السياسية عن المقاومة، مما مهّد الطريق لتمرير قانون «الأساس» (Bases Law) الذي يُعدّ تعديلاً جذرياً لأكثر من 600 قانون، يُسهل نقل الثروة من الدولة إلى القطاع الخاص، ويُضعف حقوق العمال عبر إدخال فئة «عامل مستقل» تتيح للشركات تجنيد عمال دون التزامات قانونية، وتمديد فترات التجربة، وإلغاء العقوبات على أصحاب العمل المتأخرين في دفع التأمينات.

وإذا كانت هذه الإجراءات تهدف إلى «استقرار» التضخم- الذي انخفض فعلاً من 25.5% شهرياً في كانون الأول 2023 إلى 2.4% في شباط 2025- فإن هذا الاستقرار وهمي، لأنه مبني على تدفقات نقدية مؤقتة: إعادة أموال مهربة عبر عفو ضريبي جذب 23 مليار دولار، وفائض تجاري ناتج عن تراجع الاستهلاك وليس النمو، وصادرات نفطية ناجمة عن استثمارات سابقة. لكن الاستثمار الأجنبي المباشر تراجع إلى أدنى مستوى منذ 2002، واحتياطيات النقد الأجنبي لم ترتفع سوى من 21 إلى 24 مليار دولار رغم تدفقات هائلة، بينما ارتفع الدين العام بقيمة 92 مليار دولار خلال 16 شهراً.

هذا التناقض بين «النجاح» الظاهري والانهيار الهيكلي دفع الحكومة إلى العودة إلى صندوق النقد الدولي- الذي يعدّ الآن الدائن الأكبر للأرجنتين بعد منحها قرضاً بقيمة 20 مليار دولار في أبريل 2025، رغم مخالفة الصندوق لقوانينه الخاصة، وتجاوزه لسقف الاقتراض المسموح به بأكثر من 1000% مقابل هذا القرض، يُطلب من الأرجنتين تبني نظام سعر صرف عائم، ورفع كل ضوابط رأس المال، وخصخصة الشركات العامة، وإصلاح نظام المعاشات، وتخفيض الإنفاق الاجتماعي- نفس الوصفة الفاشلة التي طبقت في الثمانينيات والتسعينيات، وأدت إلى انهيار اقتصادي واجتماعي هائل.

لكن الخلفية ليست اقتصادية فقط. فالأرجنتين غنية بالموارد: نفط، ليثيوم، أراضٍ زراعية. وهذا ما يجعلها هدفاً استراتيجياً في صراع النفوذ بين الولايات المتحدة والصين. ففي آذار 2025، زار الأرجنتين قائد القيادة الجنوبية الأمريكية، وأجبر ميلي على إيقاف مشاريع صينية، والسماح بإنشاء قاعدة عسكرية أمريكية في أوشوايا- بوابة القارة القطبية الجنوبية- وإعادة تشغيل رادار بريطاني على جزر مالفيناس المحتلة. كما تسعى واشنطن للحصول على حق الوصول الحصري للمعادن الاستراتيجية في الجنوب.
وحتى هذا الدعم الخارجي لم يحمِ ميلي من فضائحه الداخلية: ففي شباط 2025، أطلق ميلي عملة مشفرة اسمها «$LIBRA» عبر تغريدة، فارتفع سعرها من 0.000001 دولار إلى 5 دولارات في ساعات، ثم انهار فجأة بعد بيع مسؤولين قريبين من الرئيس لمحفظاتهم- مما سرق 200 مليون دولار من المستثمرين. وقد تبع ذلك موجة عالمية من الغضب، ودعوات للتحقيق الجنائي في الولايات المتحدة وأوروبا والأرجنتين، مما أضعف شرعية النظام.
وفي الوقت نفسه، بدأت المقاومة تتعزز. ففي أيلول 2025، حقق ميلي هزيمة كبيرة في انتخابات مقاطعة بوينس آيرس، واندلعت احتجاجات عنيفة في أنحاء البلاد، بينما بدأ الكونغرس يتحدى سلطته. ورغم أن الصندوق والولايات المتحدة أطلقا حزمة إنقاذ جديدة بقيمة 20 مليار دولار- تتضمن إعفاءات ضريبية على صادرات الحبوب للصين (ضارة بالمزارعين الأمريكيين!) وتسهيلات أكبر لخروج رؤوس الأموال- فإن هذه «المساعدات» لا تُنقذ الاقتصاد، بل تُعيد تأجيل الانهيار وتدفع الأرجنتين إلى عمقٍ أعمق من التبعية.

إن ما يحدث في الأرجنتين ليس مجرد أزمة اقتصادية، بل هو محاولة ممنهجة لتحويل دولة ذات سيادة إلى مستعمرة اقتصادية، تُدار من خارج حدودها، وتُخضع شعبها لشروط رأس المال العالمي تحت غطاء «الانضباط المالي». والصندوق الدولي، الذي كان في السابق أداة لتمويل التدهور، أصبح الآن ضامناً للهيمنة الجيوسياسية الأمريكية.
لكن الأمل لا يزال موجوداً. فعلى الرغم من القمع، وانهيار الخدمات، وانهيار الثقة، فإن الشعب الأرجنتيني- الذي يحمل إرثاً عريقاً من النضال الاجتماعي- بدأ يعيد تجميع قواه. المظاهرات تتصاعد، والكونغرس يبدأ في التمرد، والعدالة تُحاكم رموز النظام. السؤال الآن ليس إن كان الشعب سيقاوم، بل متى سيُعيد احتلال مستقبله؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1252