أعجب ذلك ترامب أم لا... الصين تربح «الحرب التجارية»
عقد دونالد ترامب اجتماعاً مهماً مع الرئيس الصيني شي جينبينغ في مدينة بوسان الكورية الجنوبية في 30 تشرين الأول. وهناك توصّلا إلى اتفاق جديد يعادل هدنة لمدة عام واحد. وافقت حكومة أمريكا على رفع معظم الإجراءات العقابية التي فرضتها على الصين منذ نيسان 2025، لتعيد الوضع فعلياً إلى ما كان عليه في كانون الثاني، عند دخول ترامب ولايته الثانية. وعلى الرغم من أنّ هذا ليس نهاية الحرب التجارية، إلا أنّ الصين ربحت هذه المعركة بوضوح.
ذكرت صحيفة «فايننشال تايمز» أنّه «على عكس قبل نحو 10 سنوات، حين باغتت أولى الهجمات التجارية لترامب بكين، فإنّ الصين اليوم، الأكثر استعداداً والأقوى اقتصادياً، استطاعت أن تقف نداً لخصمٍ كان أقوى منها بكثير».
بدءاً من نيسان 2025، هدّد ترامب بفرض رسوم جمركية هائلة على دول العالم. والصين وحدها استطاعت الدفاع عن نفسها ومنع أمريكا من فرض معاهدة غير متكافئة عليها. وعندما لجأ ترامب إلى «الخيار النووي» ورفع الرسوم على الصين إلى 145%، ظنّ أنّ بكين ستخضع. لكنّ الأخيرة ردّت برسوم مماثلة تماماً، الأمر الذي أفزع واشنطن، فتراجع ترامب.
تكرر المشهد حين شددت إدارة ترامب القيود على صادرات الشرائح الإلكترونية إلى الصين، وأدرجت عدداً أكبر من الشركات الصينية على «قائمة الكيانات» الأمريكية. ردّت بكين بتقييد تصدير المعادن الأرضية النادرة والمغانط لأمريكا. ومجدداً، شعر البيت الأبيض بالخوف، لأنّ الصين تهيمن على الإمدادات العالمية لهذه المعادن، وتعتمد عليها شركات أمريكية عديدة بشكل كبير. واضطر ترامب للتراجع.
لذلك نقلت «فايننشال تايمز» عن محلل في بنك «بي إن بي باريباس» قوله إنّ أمريكا باتت تعترف «بأنها تتعامل الآن مع خصمٍ ندّ قادر على إلحاق ضرر اقتصادي فعلي بها – وهي وضعية جديدة نسبياً على أمريكا، وتطور يؤكد، بالنسبة إلينا على الأقل، صعود الصين إلى مكانة القوة الاقتصادية العظمى عالمياً».
أمريكا تقدم تنازلات أكثر من الصين
خلصت «بلومبرغ» إلى أنّ أمريكا قدّمت تنازلات أكبر من الصين بعد لقاء ترامب–شي في كوريا الجنوبية. فبموجب الصفقة، وافقت حكومة أمريكا على:
• وقف تهديد ترامب بفرض رسوم إضافية بنسبة 100%.
• خفض رسوم الفنتانيل من 20% إلى 10%.
• إزالة الشركات الصينية الجديدة المدرجة على «قائمة الكيانات».
• تعليق رسوم الموانئ.
أما الصين، فوافقت على:
• رفع قيودها على المعادن الأرضية النادرة.
• تشديد تقييد صادرات المواد الكيميائية المستخدمة في تصنيع الفنتانيل «مع أنها كانت قد بدأت بذلك سابقاً».
• استئناف شراء فول الصويا من أمريكا.
وادّعى ترامب وحلفاؤه أنّ الصين ستشتري النفط والغاز الأمريكي وربما تسمح بصفقة تتعلق «بتيك توك»، لكنّ هذا غير مؤكّد وهو مجرد احتمال.
في عام 2000، كانت الصين تعتمد كثيراً على السوق الأمريكية، وكان ربع تجارتها تقريباً مع أمريكا. لكن خلال العقدين الماضيين، خفّضت الصين اعتمادها التجاري على أمريكا بشكل كبير. وبحلول 2023، باتت التجارة مع أمريكا لا تتجاوز 10% من إجمالي تجارتها. وبالتدقيق في تفاصيل ما تصدّره الصين إلى أمريكا، وما تستورده منها، تتضح الصورة.
الصين تصدّر منتجات تكنولوجية لا تستطيع أمريكا الحصول عليها بسهولة من أماكن أخرى، مثل الهواتف، الحواسيب، البطاريات، الآلات، وقطع الغيار. لم نعد في تسعينيّات القرن الماضي حين كانت صادرات الصين لأمريكا تتركز في السلع منخفضة القيمة المضافة «منسوجات، ألعاب، أجهزة منزلية». ارتقت الصين سريعاً في سلاسل القيمة العالمية.
بالمقابل، تعتمد صادرات أمريكا إلى الصين على السلع الأولية؛ نفط، غاز، فول الصويا، ذرة. ويمكن للصين أن تشتري هذه السلع بسهولة من دول أخرى. صحيح أنّ هناك بضعة منتجات أمريكية لا تزال الصين تحتاجها، مثل الشرائح المتقدمة، لكن ذلك يتغير بسرعة. كما كانت أمريكا تصدّر عدداً كبيراً من السيارات إلى الصين. لكن الصين أصبحت أكبر منتج للسيارات في العالم، ويفضل معظم المستهلكين شراء سيارات صينية أرخص بكثير.
ترامب ومعاونوه يفكرون بالصين كما كانت في ثمانينيّات وتسعينيات القرن الماضي. لكن تلك الأيام انتهت. فالصين استخدمت بنجاح سياسات صناعية وتخطيطاً مركزياً ومنافسة سوقية منظمة لترتقي بسرعة في سلاسل القيمة، وتعزز الاكتفاء التكنولوجي، وتوسع الإنتاج الصناعي. والنتيجة واضحة؛ الصين اليوم القوة التصنيعية الوحيدة المهيمنة في العالم.
نعم، الصين تحقق دخلاً مهماً من صادرات الإلكترونيات، لكن معظم عائدات هذا القطاع تأتي من المبيعات داخل البلاد. وفي باقي القطاعات الأخرى، تشكل المبيعات الداخلية النسبة الساحقة من الإيرادات. وبعض الصادرات الصينية إلى أمريكا يعاد توجيهها عبر دول ثالثة مثل فيتنام وإندونيسيا وتايلاند والمكسيك، حيث تُضاف إليها قيمة جديدة قبل وصولها إلى السوق الأمريكية دون أن تحمل ملصق «صُنع في الصين». لكن بالنسبة للمصدّر الصيني، هذا غير مهم، المهم بيع المنتج.
المعادن الأرضية والشرائح
من أهم الدروس في هذه الجولة من الحرب التجارية؛ المعادن الأرضية النادرة، فالصين تهيمن تماماً على سلسلة إمداد هذه المعادن عالمياً، تعديناً وتصنيعاً. كانت الصين مسؤولة عن أكثر من 60% من التعدين وقرابة 90% من التكرير بحلول 2024. ورغم أن هذه المعادن ليست «نادرة» للغاية، إلا أن معالجتها صعبة وتحتاج خبرة وعمالة وتسبب التلوث، وهذا ما يجعل الصين متفوقة.
حاولت أمريكا منذ عقد إنشاء سلسلة توريد بديلة، خصوصاً منذ بدء ترامب الحرب التجارية في ولايته الأولى، لكنها لم تحرز تقدماً كبيراً. سيستغرق الأمر سنوات وربما عقوداً حتى تحقق أمريكا قفزات كبيرة. وعندما ردت الصين عام 2025 على التصعيد الأمريكي وفرضت قيوداً على تصدير المعادن الأرضية النادرة ومغانطها إلى أمريكا، أصيب البنتاغون والقطاع الصناعي العسكري بالذعر. فشركات التكنولوجيا والتصنيع العسكري الأمريكية تعتمد بشكل كبير على هذه المعادن.
نشر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية «CSIS»، وهو مركز يتلقى تمويلاً حكومياً وعسكرياً أمريكياً، تقريراً يحذر من أنّ «القيود الصينية الجديدة على المعادن الأرضية النادرة والمغانط تهدد سلاسل إمداد الدفاع الأمريكية». من المفارقات أنّ الجيش الأمريكي يضع خططاً لحرب محتملة ضدّ الصين، لكنه لا يستطيع تصنيع أسلحته بدون معادن صينية.
لهذا ضخت أمريكا خلال السنوات الماضية موارد ضخمة لبناء سلسلة توريد بديلة للمعادن الاستراتيجية. لكن حتى منشورات القطاع العسكري الأمريكي تعترف بأنّ أمريكا لا تستطيع اللحاق بالصين. مجلة «ناشونال ديفينس» قالت بوضوح: «أمريكا لن تستطيع إنهاء اعتمادها على الصين عبر الإنتاج المحلي».
تصوّر الاستراتيجيون في واشنطن أنّ تصدير التكنولوجيا إلى الصين، خاصة الشرائح المتقدمة وأدوات تصنيعها، ستكون «نقطة الضعف» الصينية. وأنّ منع الصين من الحصول على الشرائح سيجعلها غير قادرة على اللحاق بالتقدم التكنولوجي، خصوصاً في الذكاء الاصطناعي. كانت الآمال معلقة على احتكار «وادي السيليكون» للذكاء الاصطناعي.
لكن ما حصل كان العكس. فقد دفعت القيود الأمريكية الصين إلى تسريع تطوير صناعتها المحلية في مجال الشرائح. وبفضل سياسات صناعية قوية، حققت الصين تقدماً كبيراً. في نيسان 2024، حذّرت وزيرة التجارة الأمريكية ريموندو قائلة: «نحو 60% من كل الشرائح الإلكترونية التقليدية الجديدة في السوق خلال السنوات القادمة ستنتجها الصين».
ما حدث في «حرب الشرائح» يعكس نجاح النموذج الصناعي الصيني، فالتطوير التكنولوجي في قلب الخطة الخمسية الجديدة للصين «2026–2030»، التي تدعو إلى «إجراءات استثنائية» لتحقيق اختراقات في إنتاج الشرائح المتقدمة. ومن يعرف تجارب الخطط السابقة، يعلم أنّ الصين عادة ما تحقق أهدافها.
حتى «المعهد الأسترالي للسياسات الاستراتيجية» ASPI - المعروف بعدائه الشديد للصين والممول من حكومات غربية وعسكرية - اضطر للاعتراف بأنّ الصين «تتصدّر 57 من أصل 64 تقنية حرجة» – أي 89%. بينما لم تعد أمريكا متقدمة إلا في 7 تقنيات فقط – أي 11%. هذا تحول زلزالي خلال عقدين فقط. وبذلك، لم يكن مفاجئاً أن ترتد الحرب التجارية والتكنولوجية على أمريكا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1252
بين نورتون