أوهام الجذب الضريبي السوري: تكريس انحياز الدولة لسلطة رأس المال

أوهام الجذب الضريبي السوري: تكريس انحياز الدولة لسلطة رأس المال

شهد شهر أيلول الماضي تحولاً مفصلياً في السياسة المالية السورية، حيث أعلنت وزارة المالية عن إطلاق عملية تغيير واسعة في بنية النظام الضريبي وصلت ذروتها بإصدار مسودتين جديدتين لقانوني «الضريبة على الدخل» و«الضريبة على المبيعات». وتكتسب هذه التغييرات حساسية مفرطة وأهمية استثنائية بالنظر إلى توقيت طرحها وسياقها الاقتصادي الراهن، إذ تعتبر الضرائب الشريان الحيوي وأهم مصادر الإيرادات السيادية للدولة التي تعاني من عجز مزمن، في وقت لا تزال السلطة الحالية تشتكي فيه ليل نهار من انخفاض هذه الإيرادات وشح الموارد. وتستخدم الحكومة هذه الحجة لتبرير السياسات المجحفة التي تنتهجها، والتي تتضمن عمليات ممنهجة لإنهاء الدعم الاجتماعي ورفع أسعار المواد الأساسية التي تمس قوت المواطن اليومي، مثل الخبز والمحروقات، ومؤخراً الزيادات الحادة في تعرفة الكهرباء. حيث لا تزال السلطة تتمسك بسردية ضرورة «وقف الخسارة» التي تتكبدها الخزينة جراء هذا الدعم، وضرورة ردم الفجوة في العجز، مما يطرح تساؤلات مشروعة وعميقة حول التناقض بين الشكوى من قلة الموارد وبين السعي لتعديل القوانين الضريبية بما يؤثر على تدفق هذه الموارد نفسها.

منذ طرح المسودتين للنقاش العام، تحول المشهد الاقتصادي إلى ساحة جدل واسعة، فخلال العديد من ورشات العمل والحوارات التي أقامها أكاديميون واقتصاديون وممثلون عن غرف الصناعة والتجارة ورجال الأعمال، تباينت الآراء في تحليل جوهر المشروعين ومآلاتهما. وقد تركزت آراء الفريق المؤيد، والذي ضم غالباً ممثلين عن قطاع الأعمال والجهات الحكومية، على مسائل تقنية تتعلق بوضوح النصوص وتبسيط الإجراءات، معتبرين أن النهج الموحد في ضريبة الدخل وتخفيض النسب يعد تحولاً «عادلاً» وخطوة ضرورية لإنشاء بيئة جاذبة للمستثمرين الأجانب.

في المقابل، حذّر العديد من الاقتصاديين من مغبة هذا التوجه، مشيرين إلى أن تحويل هاتين المسودتين بصيغتهما الحالية إلى قوانين نهائية نافذة من شأنه أن يؤدي إلى انخفاض متسارع في الإيرادات الضريبية، وهو ما سيحد بشكل خطير من قدرة الدولة على الإنفاق في القطاعات ذات الأولوية القصوى كالخدمات العامة والبنية التحتية، وهي المسألة التي تعاني منها سورية بشكل مزمن وتاريخي بفعل التهرب الضريبي الكبير الذي نخر جسد الاقتصاد الوطني لسنوات طويلة.


تفكيك مشروعي قانوني الدخل والمبيعات


البداية مع المشروع الجديد لقانون الضريبة على الدخل الذي يحمل تغييرات جوهرية في فلسفة الجباية. فبموجب هذا المشروع، تم رفع سقف الإعفاء بشكل كبير، حيث يُحدد الدخل السنوي المعفى تماماً من الضرائب للأفراد والشركات بـ 60 مليون ليرة سورية، وهو ما يعادل 5450 دولاراً أمريكياً تقريباً وفقاً لسعر الصرف الرسمي. وتتغير آلية الاحتساب لمن يتجاوز دخلهم هذا الحد، فتُطبق عليهم ضريبة مخفضة بنسبة 6% فقط على أول 5 ملايين ليرة سورية تزيد عن حد الإعفاء، أي ما يعادل نحو 450 دولاراً، بينما يُطبق على الدخل الذي يتجاوز هذا المبلغ ضريبة بنسبة 8% مهما بلغ حجم هذا الدخل، مما يشير إلى توجه نحو تثبيت النسب الضريبية عند مستويات منخفضة.

إلى جانب تحديد النسب، يسمح المشروع للمكلفين الأفراد بخصم مجموعة واسعة من النفقات الإضافية من دخلهم الخاضع للضريبة، مما يقلص الوعاء الضريبي بشكل أكبر. فيحق للمكلف المتزوج الذي لا تخضع زوجته/ زوجها لضريبة الدخل، سواء كانت عاطلة عن العمل أو كان دخلها أقل من الحد الخاضع للضريبة، الحصول على خصم إضافي من الضرائب قدره 6 ملايين ليرة سورية أي نحو 545 دولاراً. أما المكلفون الذين لديهم أطفال، فسيستفيدون من إعفاء إضافي قدره 8 ملايين ليرة سورية، ما يعادل 727 دولاراً، ورغم أن النص لا يزال بحاجة لتوضيح حول ما إذا كان المبلغ المخصوم يُحسب لكل طفل على حدة أم أنه مبلغ ثابت ومقطوع يُخصم بغض النظر عن عدد الأطفال، إلا أنه يمثل توسعاً في الإعفاءات العائلية.
ويمنح القانون هامش مناورة للشركات للتهرب الضريبي تحت عباءة التبرعات، حيث يمكنها استبعاد ما يصل إلى 25% من دخلها الخاضع للضريبة إذا تبرعت به لأسباب دينية أو خيرية أو إنسانية أو علمية أو بيئية أو ثقافية أو رياضية أو مهنية.
أما بالنسبة للشركات التي يتجاوز دخلها السنوي حد الإعفاء، فقد اعتمد المشروع تصنيفاً قطاعياً لفرض الضرائب، حيث يفرض ضريبة دخل بنسبة 10% على قطاعات الصناعة والتعليم والرعاية الصحية والاستشارات والتدريب والتكنولوجيا والطيران، بينما تُفرض ضريبة بنسبة 15% على القطاعات التجارية والخدمية الأخرى. وتأتي المادة التاسعة من مشروع القانون لتعزز سياسة الإعفاءات، إذ تعفي من ضريبة الدخل عمليات تصدير السلع والخدمات المنتجة محلياً، وكذلك أرباح الودائع المصرفية وعوائد تداول الأسهم، كما يُبقي النص الجديد على الإعفاءات السابقة كالإعفاء الكامل للدخل الزراعي وأرباح الشركات العاملة داخل المناطق الحرة في سورية.

لإدراك حجم التغيير، تجدر الإشارة إلى أنه في ظل النظام الضريبي السابق، كان الحد الأدنى للدخل المعفى مرتبطاً بالحد الأدنى للأجور وكان منخفضاً جداً، مع تطبيق ضريبة تصاعدية تتراوح بين 5% و15% على الدخول الأعلى للأفراد. أما بالنسبة للشركات، فقد تراوحت معدلات الضريبة بين 15% و20%، وكانت ترتفع لتصل إلى 25% للبنوك والمؤسسات المالية و35% لشركات النفط والغاز، وهو ما يظهر الفارق الشاسع والتخفيض الكبير الذي يحمله المشروع الجديد.
بالتوازي مع ذلك، يأتي مشروع قانون الضريبة على المبيعات الذي يهدف وفقاً لتصريحات وزير المالية، محمد يسر برنية، إلى استبدال المرسوم التشريعي رقم 11 لعام 2015 والذي كان يفرض رسوماً على الإنفاق الاستهلاكي بمعدلات متباينة ومعقدة. وينص المشروع الجديد على توحيد الرؤية عبر فرض ضريبة مبيعات عامة بنسبة 5% على معظم السلع والخدمات المتداولة، وذلك إلى جانب ضرائب خاصة إضافية تتراوح نسبها بين 15 و85% تفرض على قائمة محددة من السلع والخدمات التي تعتبر فاخرة أو كمالية. كما يمنح المشروع مرونة تنفيذية واسعة للسلطة التنفيذية، إذ يجيز لوزير المالية تعديل هذه المعدلات سنوياً بقرار وزاري، شريطة الحصول على موافقة الأمانة العامة لرئاسة الجمهورية، وعلى ألا يتجاوز التعديل، سواء بالزيادة أو النقصان، خمسين في المائة من إجمالي الضريبة الأساسية المحدد في القانون.

ودافع الوزير برنية عن هذه النسب، مشيراً إلى أن ضريبة المبيعات البالغة 5% والمقترحة في مشروع القانون تعتبر أدنى نسبة على الإطلاق مقارنة بالنسب المطبقة في الأسواق الإقليمية والدولية، مستعرضاً مقارنة مع دول الجوار والمنطقة، حيث أضاف أن النسبة المقابلة تبلغ 20% في المغرب، و19% في كل من الجزائر وتونس، و17% في مصر والسودان، و16% في الأردن، و15% في السعودية، و11% في لبنان.
من الناحية التقنية، تختلف ضريبة المبيعات عن ضريبة القيمة المضافة (VAT) في آلية التحصيل، حيث أنها تفرض مرة واحدة فقط عند نقطة البيع النهائية للمستهلك، بينما تفرض ضريبة القيمة المضافة بشكل تراكمي في كل مرحلة من مراحل سلسلة التوريد، بدءاً من الإنتاج ووصولاً إلى البيع بالتجزئة. وفي هذا السياق، كشف وزير المالية أن مشروع القانون مصمم كخطوة انتقالية تمهيدية تهدف لاعتماد نظام ضريبة القيمة المضافة في نهاية المطاف.

gzns0baxuae82dj_result


تخفيضات غير منطقية وشرعنة للتهرب


إخضاع المسودتين للتحليل يوضح أنهما تمثلان حزمة من التخفيضات الضريبية غير المنطقية وغير المسبوقة في تاريخ السياسة المالية السورية، والتي تثير الكثير من علامات الاستفهام حول جدواها وعدالتها. حيث إن فرض ضريبة مقطوعة وشبه موحدة على الشركات تتراوح بين 10% و15% دون أي تمييز حقيقي بين هذه الشركات بناءً على حجمها المالي أو حجم إنتاجها أو مستويات أرباحها هو سياسة جائرة وغير عادلة إطلاقاً، وتكرس الفوارق الطبقية حتى في السوق، فمن غير المنطقي أن تُفرض ضريبة على شركة قابضة كبرى أو مصنع ضخم يحقق أرباحاً طائلة بالمليارات بنفس معدل الضريبة المفروض على ورشة عمل صغيرة أو منشأة متوسطة الحجم تكاد تغطي نفقاتها التشغيلية، وهذا التسطيح الضريبي يلغي مبدأ «القدرة على الدفع» الذي يعد ركيزة العدالة الضريبية.
ومن الجوانب الأكثر غرابة في المشروع هو منح هذه الحوافز الضريبية غير المسبوقة للاستثمار في قطاعي الرعاية الصحية والتعليم الخاصين، وتحديد ضريبة مخفضة لهما بنسبة 10% فقط. حيث يتجاهل هذا التوجه حقيقة أن هذه القطاعات تحقق في الواقع أرباحاً هائلة وهوامش ربح فلكية، ولا يجب أن تعفى بهذا القدر الكبير من الضرائب، يدرك ذلك أي مواطن سوري يضطر تحت ضغط تراجع الخدمات الحكومية لتسجيل أحد ابنائه في جامعة خاصة أو مدرسة خاصة، أو يضطر لنقل أحد أقاربه إلى مشفى خاص، حيث تسعر هذه المؤسسات خدماتها بأسعار مرتفعة جداً لا تتوافق إطلاقاً مع القدرة الشرائية للمواطنين السوريين وتتجاوز دخلهم بأضعاف مضاعفة. والأهم من ذلك، أن الاستثمار في هذه القطاعات يدخل في صلب المسؤولية الاجتماعية للدولة، والتي يجب أن تحافظ على دورها المركزي في توفير الخدمات الأساسية للمواطنين بأسعار تضمن قدرتهم على الاستفادة منها، لا أن تشجع على خصخصتها من خلال تقديم إعفاءات ضريبية سخية لأصحاب هذه المشاريع الخاصة.
فوق ذلك، تعكس الإعفاءات الضريبية الواسعة المقترحة في مشروعي القانونين قناعة راسخة لدى السلطات بأن هذه الإجراءات من شأنها أن تشجع الاستثمار المحلي والأجنبي وتجذب رؤوس الأموال، لكن هذه القناعة - التي تعكس صدى توصيات مؤسسات مالية دولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي - هي قناعة قصيرة النظر ومضللة جداً عند إسقاطها على الواقع السوري، والتاريخ الاقتصادي يقدم دليلاً دامغاً على ذلك، ففي خمسينيات القرن الماضي، والتي توصف بالفترة الذهبية للاقتصاد السوري، وصلت معدلات ضريبة الدخل في سورية إلى نحو 49% في بعض الحالات، ورغم ذلك الارتفاع الكبير في النسب كان النشاط الاستثماري في البلاد مزدهراً، وذلك يؤكد أن المشكلة الأساسية التي تمنع الاستثمار اليوم في سورية ليست مرتبطة بالضرائب والاعفاءات الضريبية ونسبها، بل ببنية الاستثمار بحد ذاتها ودرجة الاستقرار السياسي والاجتماعي المفقودة اليوم في البلاد.

كذلك، وبدلاً من سد الثغرات، يوفر مشروع قانون الضريبة على الدخل فرصاً ذهبية وغير مسبوقة للتهرب الضريبي «المقونن»، كونه يسمح للشركات وقطاع الأعمال عموماً باستغلال الثغرات القانونية الواسعة التي تتيح لهؤلاء إعفاء أجزاء كبيرة من دخلهم من الضرائب بشكل رسمي. حيث يُمكن لأصحاب الأعمال، وبموجب النصوص الجديدة، خصم نفقات كبيرة ومتشعبة تتعلق بما يسمى رفاهية الموظفين، بما في ذلك المساهمات في صناديق استحقاقات الموظفين، وبدلات الوجبات، وتكاليف السفر، ونفقات ضيافة الزوار والوفود، والتكاليف المرتبطة بالتسويق والبحث والتطوير والتدريب، وهذه جميعها نفقات يمكن لأصحاب الأعمال التلاعب بها وتضخيمها بسهولة بالغة في سجلاتهم المحاسبية لتخفيض الأرباح المصرح بها، وهي عملية محاسبية من شأنها، وفقاً لتقديرات وتحليلات بعض أساتذة كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، أن تسمح لأصحاب الأعمال بتهريب نحو 70% من دخلهم الحقيقي بعيداً عن أعين الدوائر المالية وعن وعاء الضريبة، مما يفرغ القانون من محتواه ويحرم الخزينة من المليارات.


انحياز طبقي وتخريب مزدوج النتائج


في المحصلة النهائية، يتضح جلياً أن النظام الضريبي الجديد يعكس التوجه الاقتصادي الاجتماعي للسلطة، والذي يمنح الأولوية المطلقة لرأس المال ولتعظيم أرباح كبار رجال الأعمال والشركات الأجنبية الكبرى المتوقعة، وذلك على حساب معيشة ومستقبل المواطنين السوريين الذين يعيش أكثر من 90% منهم اليوم تحت خط الفقر.

يمثل هذا النهج وصفة لكارثة محققة تضرب الاقتصاد والمجتمع في كلا الاتجاهين وتخلق وضعاً خاسراً للجميع: فمن جهة أولى، سيجد السوريون حكومتهم تبدد مصادر إيراداتها مجدداً وبملء إرادتها عبر هذه الإعفاءات السخية، وتجفف المنابع المالية في وقت تشتد فيه الحاجة الاقتصادية لوجود إيرادات حقيقية تسمح للحكومة بالإنفاق على منظومة الدعم الاجتماعي المتهالكة وترميم الخدمات العامة، وهذا التبديد سيُستخدم لاحقاً كذريعة لفرض المزيد من التقشف ورفع الدعم، مما يزيد من إفقار الناس. ومن جهة أخرى، وبالتوازي مع خسارة الإيرادات، لن تفلح الحكومة بجذب المستثمرين الحقيقيين الذين سيجدون، كما هم الآن، أن الشرط الأساسي والحيوي لأي استثمار ناجح وهو البيئة المستقرة اجتماعياً يتعرض لضربات جديدة وقاصمة ويزداد وضعه سوءاً يوماً بعد يوم بفعل تآكل القدرة الشرائية وتوسع رقعة الفقر، فالمستثمر لا يبحث فقط عن جنة ضريبية، بل يبحث عن سوق يمتلك مستهلكوه القدرة على الشراء، وعن بيئات مستقرة لا تسبب له متاعب متوقعة.
لذلك، ومن أجل ضمان البيئة المستقرة اجتماعياً واقتصادياً، فإنه لا بديل عن تحقيق عدالة اجتماعية حقيقية والتخفيف الفوري من معاناة السوريين الأكثر فقراً، ومن أجل ذلك لا بد من اعتماد سياسات صريحة لإعادة توزيع الدخل والثروة داخل المجتمع السوري بدلاً من محاباة أصحاب الربح الكبير.

أدت سنوات الحرب والفساد المستشري على زمن الأسد إلى تراكم الثروة بشكل فاحش لدى فئة ضيقة جداً من المنتفعين وأثرياء الحرب، فيما انزلقت الغالبية العظمى من الشعب إلى ما دون خط الفقر. وعليه، ينبغي أن تتضمن الرؤية المستقبلية لسورية الجديدة تغيير جذري للنظام الضريبي ليصبح نظاماً تصاعدياً بحق، يفرض ضرائب أعلى على الشركات الكبرى وأصحاب الدخل المرتفع والثروات الضخمة، مقابل تخفيف العبء الضريبي والمعيشي عن الفقراء ومحدودي الدخل.
كما يتعين تفعيل أدوات صارمة لمكافحة التهرب الضريبي الذي حرم الخزينة العامة لسنوات طويلة من موارد هائلة كانت كفيلة بتمويل برامج اجتماعية وتنموية مهمة، والوقف الفوري لجميع عمليات تبديد مصادر إيرادات الدولة التي تصاعدت وتيرتها وشرعنتها بفعل المسودتين الجديدتين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1253