السلطات تتغير والإهمال ثابت: دير الزور خارج خريطة الأولويات

السلطات تتغير والإهمال ثابت: دير الزور خارج خريطة الأولويات

في خضم الحديث المتواصل للسلطة عن إعادة الإعمار ووعود الاستثمارات الدولية ومذكرات التفاهم التي يبدو أنها ستظل أسيرة الورق، تظل محافظة دير الزور السورية، بما في ذلك الجزء الخاضع منها لسلطة المركز في دمشق، في قلب أزمة متفاقمة، تكشف عن حقيقة مغايرة للخطابات الرسمية. فالمحافظة، التي كانت فيما مضى ركيزة للاقتصاد السوري بفضل خصوبة أراضيها وثرواتها، تعاني اليوم إرثاً من الإهمال الممنهج الذي تفاقم على زمن سلطة الأسد الساقطة ولم يجر عكسه حتى اليوم، حيث لم تقدم السلطة الجديدة أي خطة جديدة لانتشال المحافظة القابعة في دائرة التهميش، والتي بقيت بعيدة حتى عن مشهد التوقيع على مذكرات التفاهم التي لا أثر ملموس لها على أرض الواقع. يترك هذا الغياب شبه الكامل عن الاهتمام الحكومي والاستثماري المحافظة في مواجهة قضايا عاجلة وحاسمة لإعادة الحياة إليها، في حين تتفاقم أزمات الخدمات والبنية التحتية يوماً بعد يوم.

في الأشهر الأخيرة، دقت العديد من المنظمات الإغاثية ناقوس الخطر فيما يتعلق بوضع المحافظة، مؤكدة على ضرورة تدخلات عاجلة وسريعة. وقد عززت تقييمات حديثة متعددة القطاعات أجريت بين شهري آذار ونيسان من العام 2025 هذه التحذيرات، مقدمة أرقاماً وشواهد جديدة تكشف عن مدى الهشاشة الشديدة التي تعاني منها دير الزور.

وتكشف هذه الأرقام عن واقع صادم، فما يقارب نحو 95% من المدارس، التي تشكل مستقبل الأجيال القادمة، تحتاج إلى شكل من أشكال الترميم أو التأهيل. كما أن أربعة من كل خمسة جسور رئيسية، التي تمثل شرايين الحياة للمحافظة، خارجة عن الخدمة بالكامل أو متضررة بشكل خطير. وفي قطاع الخدمات الأساسية، تعاني الغالبية العظمى من المرافق الصحية ومحطات المياه من نقص حاد في المعدات، ما يهدد الصحة العامة للسكان. وتتفاقم هذه الأزمة مع معاناة 47% من الأسر من انعدام الأمن الغذائي، في ظل تغطية إغاثية لا تتجاوز 0.8% من السكان.

بطبيعة الحال، فإن هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات عابرة، بل هي انعكاس مباشر لحجم التحدي الذي يواجه دير الزور اليوم، وتأكيد على أن أي تقدم نحو الاستقرار لن يكون ممكناً دون جهود حقيقية وعاجلة تضع المحافظة في صميم خطط التنمية.

تحديات التعليم والصحة: قطاعان على حافة الانهيار

يشير تقييم الاحتياجات في دير الزور إلى أن قطاع التعليم يعاني أزمات بنيوية عميقة. فهناك 296 مدرسة حكومية في عموم المحافظة تخدم نحو 146,383 طالباً وطالبة، ما يجعل نسبة التلاميذ إلى المدارس مرتفعة جداً في معظم المناطق. وعليه، تعاني المنشآت التعليمية إهمالاً متواصلاً، حيث تفتقر 68% من المدارس تماماً إلى الإنارة الطبيعية أو الكهربائية، و55% منها بلا تدفئة كافية، كما سجلت التقارير انهيارات جزئية في أسوار وأبواب نحو 43% من المدارس، وهو ما يهدد سلامة الأطفال ويجعل البيئات التعليمية غير آمنة.

أما من حيث المياه والصرف الصحي، فقد تبين أن 62% من دورات المياه في المدارس غير صالحة للاستخدام أو تشكل خطراً صحياً. ويضاف إلى ذلك أن 71% من المدارس تفتقر إلى مواد النظافة الأساسية. كما تفتقر نسبة كبيرة من المدارس إلى الأثاث التعليمي: فقد وجدت التقارير أن 31% من الصفوف الدراسية لا تحتوي على مقاعد أو طاولات كافية، ونحو 22% من المدارس بلا لوحات سبورة ضرورية لتعليم الطلاب.

وكشفت المسوحات الميدانية عن نقص حاد في الخدمات الأساسية التي تعد شروطاً بديهية لأي عملية تعليمية ناجحة، حيث تفتقر 80% من المدارس إلى الإنارة الكافية، ما يؤثر بشكل مباشر على فعالية الغرف الصفية وسلامة الطلبة. كما أن 55% من المدارس لا تملك مدافئ أو حتى خزانات وقود، ما يثير مخاوف جدية بشأن صحة الطلاب وقدرتهم على التركيز في فصول الشتاء القاسية.

في ظل هذا الواقع المأساوي، لم تلتفت السياسات السابقة والحالية بشكل جدي لقطاع التعليم. فالإجراءات الحكومية لم تواجه مشكلات الفصول المزدحمة أو ضعف التدفئة والكهرباء، وتركزت الجهود على الوعود الكبيرة دون تمويل فعلي لهذه المدارس. ولم يختلف النهج الحالي عن سابقه في تعاطيه مع هذه الاحتياجات، إذ لا تزال هذه الفجوات الكبرى قائمة بلا إصلاح، ما يزيد من هشاشة النظام التعليمي ويهدد مستقبل جيل كامل من الأطفال بالحرمان والتهميش.

وعلى نحو مماثل، يظهر قطاع الصحة مؤشرات واضحة تدل على الإهمال المطابق للسنوات الماضية. فقد أظهر المسوحات الأخيرة أنه من أصل 64 مرفقاً صحياً عاماً وخاصاً تم تقييمه في دير الزور، يفتقر 85% منها إلى أجهزة جراحية متخصصة وجاهزة للعمل، الأمر الذي يعكس نقصاً حاداً في تجهيزات أقسام العمليات وغلاء تكلفة شراءها. وفوق ذلك، فإن أكثر من ثلثي المرافق الصحية (نحو 70%) بلا معدات تشخيص كافية (مثل أجهزة الأشعة أو السونار)، و61% أخرى تعاني من انقطاع مستمر في الأدوية الأساسية لمختلف الأمراض. وفي جزء من هذه المرافق، لا توجد أصلاً أدوية حيوية مثل الكورتيزون والأنسولين أو المضادات الحيوية الرئيسة (أموكسيسيلين، سيفترياكسون، سيبروفلوكساسين).

ولم يقتصر النقص على الأدوية فقط، بل طال المعدات الطبية أيضاً: فلم تتجاوز نسبة المراكز التي تحتوي على أجهزة تخطيط القلب (ECG) الفعالة سوى 14%، مع ما لا يتعدى 4% من أسرّة العمليات مجهزة بشكلٍ كامل.

تبين هذه المعطيات الصادمة أن غالبية مرافق الصحة تعمل دون القدرة على تقديم خدمات أساسية ضرورية. ومرة أخرى، تواصل السلطة الحالية النهج ذاته في تجاهل احتياجات دير الزور، فالاستثمار في القطاع الصحي لم يواكب حجم متطلبات المحافظة، ما جعل المواطنين يواصلون الاعتماد على السفر إلى المحافظات الأخرى لتلقي الخدمات الصحية المطلوبة، مع ما يصاحب ذلك من تكاليف مالية إضافية تثقل كاهل أسر دير الزور.

1240_h_3

الزراعة والمياه: قلب دير الزور النازف

تعد دير الزور تاريخياً واحدة من أهم سلال الغذاء في سورية، حيث شكلت خصوبة أراضيها على ضفاف نهر الفرات عموداً فقرياً للزراعة على مستوى البلاد. غير أن هذا القطاع الحيوي لم يسلم من التدمير المنهجي الذي طال كل شيء. حيث يمثل انهيار شبكات الري، وتدهور محطات المياه، سبباً رئيسياً لتعطيل الإنتاج الزراعي، ويساهمان بشكل مباشر في أزمة الأمن الغذائي والصحة العامة التي تعصف بالسكان اليوم. وتكشف الأرقام الجديدة أن هذا الانهيار لم يجد طريقه نحو الحلول الجذرية، بل لا يزال يتفاقم، مما يعكس فشلاً في إعطاء الأولوية لإعادة تأهيل هذا القطاع.

تظهر البيانات أن نحو 30,000 دونم من الأراضي الزراعية في دير الزور لا تزال خارج الإنتاج، والسبب الرئيسي لذلك هو تدمير شبكات الري وغياب أنظمة الدعم. فالأراضي الصالحة للري والتي يبلغ مجموعها نحو 19,400 هكتار لا تزال مهملة. وتكشف الأرقام عن حاجة ماسة إلى إعادة تأهيل أو استبدال 43 محطة ري وشبكة ري واحدة، بالإضافة إلى صيانة 16 مركزاً زراعياً و13 مبنى خدمياً.

يعيق هذا النقص في البنية التحتية والخدمات الفنية، مثل وحدات الإرشاد الزراعي والمراكز البيطرية، قدرة المزارعين على استعادة نشاطهم، ويتركهم عرضة للمخاطر التي تهدد محاصيلهم وثروتهم الحيوانية. فغياب الدعم الفني واللوجستي، كتعطل 31% من الجرارات العامة وعدم صلاحية مباني الخدمات البيطرية في 6 نواحٍ، يمنع المزارعين من مكافحة الآفات أو حماية مواشيهم، ما يزيد من الخسائر الاقتصادية ويساهم في زيادة معدلات النزوح من المناطق الريفية.

تؤكد هذه الأزمة المتفاقمة أن أي حديث عن الأمن الغذائي في المحافظة لا يمكن أن يبدأ دون استعادة هذا القطاع الحيوي أولاً.

وتتكامل أزمة الزراعة مع انهيار شامل في قطاع المياه والإصلاح. فقد شملت التقييمات مؤخراً 73 محطة مياه، تبين أن 92% منها بحاجة ماسة للصيانة الميكانيكية والكهربائية. وتعتبر محطة المياه الرئيسية في مدينة دير الزور ومحطات الفرات من أعلى نقاط الخطر، حيث تؤثر أعطالها على أكثر من 300 ألف نسمة. ويزداد الوضع تعقيداً بسبب الحاجة الماسة إلى استبدال المضخات والمحركات، حيث تحتاج أكثر من 70% من المحطات إلى هذا النوع من الاستبدال. ولا يقتصر هذا الانهيار على عدم توفر المياه فحسب، بل يهدد جودتها أيضاً، حيث تفتقر أكثر من 50% من المحطات إلى أنظمة تعقيم فعالة، ما يجعل المياه غير صالحة للاستهلاك البشري.

وبشكل خاص، يمثل غياب أنظمة الكلورة تهديداً خطيراً على الصحة العامة، ويزيد من مخاطر تفشي الأمراض المنقولة عبر المياه. وتنعكس هذه الأزمة في القطاعات الأخرى، حيث توضح التقييمات الأخيرة أن 47% من الأسر تعاني من انعدام الأمن الغذائي بينما لا تتجاوز نسبة الأسر التي تتلقى مساعدات غذائية 0.8%. ويؤكد هذا التناقض الصارخ أن انهيار القطاعين الزراعي والمائي ليس مجرد مشكلة خدماتية، بل هو سبب مباشر للجوع والمرض.

تثبت هذه الأرقام أن دير الزور، التي كانت مصدر غذاء للملايين، أصبحت اليوم تكافح لإطعام نفسها، وأن السلطة القائمة لم تقدم أي حلول جذرية أو استثمارات حقيقية في القطاعين الحيويين لإعادة الحياة إلى المحافظة.

1240_h_4

الطرق والجسور والبناء: شرايين الحياة المتوقفة

لا يكتمل المشهد الكارثي في دير الزور دون النظر إلى البنية التحتية الأساسية التي تعد شريان الحياة للمحافظة. وقد كشفت التقييمات الأخيرة من المنظمات الإغاثية عن تدهور واسع النطاق في شبكة الطرق والجسور، ما أدى إلى عزل جغرافي واقتصادي وإنساني للعديد من السكان، وأكد على غياب أي استثمار حقيقي في إعادة ربط المحافظة ببعضها.

تعد الجسور منشآت حيوية تربط بين المجمعات السكانية وتضمن الوصول إلى الخدمات والأسواق، لكن الأرقام تكشف عن أن 80% من الجسور الـ 15 التي تم تقييمها في المحافظة إما مدمرة بالكامل أو متضررة. ويُعد جسر «السياسية» هو الجسر الوحيد الذي خضع لترميم جزئي، ما ترك غالبية الجسور الأخرى خارج الخدمة.

ويعيق هذا الواقع بشكل مباشر وصول المساعدات الإنسانية وفرق الإغاثة، ويجعل التنقل بين ضفتي الفرات بالغ الصعوبة.

أما شبكة الطرق، فإن حالتها لا تقل سوءاً. فقد كشفت التقييمات الميدانية عن أضرار جسيمة في أكثر من 616 كيلومتراً من الطرق، حيث يحتاج 53% منها (ما يعادل 326 كيلومتراً) إلى إعادة بناء كاملة بالإسفلت. وتتمركز هذه الأضرار بشكل مكثف في المناطق الريفية والطرفية مثل القورية والزباري، ما يشير إلى نمط واضح من التهميش.

أما النقطة الأكثر خطورة، فهي أن 76% من الطرق التي تم تقييمها (ما يعادل 472 كيلومتراً) تفتقر إلى أي نظام تصريف فعال، ما يفاقم من مخاطر تآكل الطرق والفيضانات، ويجعل التنقل مستحيلاً خلال فترات الأمطار، ويساهم أيضاً في عزل التجمعات السكانية عن بعضها، ويفاقم الأزمات الإنسانية.

ولا يعيق انهيار هذه الشرايين الحيوية حركة الأفراد والبضائع فحسب، بل ويمنع المزارعين من نقل محاصيلهم إلى الأسواق، ويزيد من الضغط على الأمن الغذائي الهش أصلاً.

ولا يقتصر انهيار البنية التحتية على الطرق والجسور، بل يمتد ليشمل المراكز الإدارية التي يفترض أن تكون مسؤولة عن إعادة تفعيل الخدمات الضرورية. فقد أظهرت التقييمات أن 90% من المراكز الإدارية التي تم تقييمها تفتقر إلى أبسط مقومات العمل، حيث لا يقتصر هذا النقص على الأثاث المكتبي الأساسي بل يمتد إلى نقص حاسم في الطاقة، حيث تحتاج هذه المراكز إلى الألواح الشمسية لضمان استمرارية العمل.

والأكثر دلالة هو النقص الحاد في الآليات ووسائل النقل. فقد أظهرت التقييمات الحاجة إلى 125 آلية ثقيلة (مثل الجرافات والشاحنات)، بالإضافة إلى 6 سيارات خدمية و20 دراجة نارية لتمكين الفرق الميدانية من التنقل.

هذه الأرقام والاحتياجات التي تعتبر متواضعة وإسعافية، تشكل دليلاً على أن السلطات المحلية عاجزة فعلياً عن تنفيذ أي مهام خدمية أو طارئة بشكلٍ جدي. فغياب الآليات الثقيلة المطلوبة لإعادة تأهيل الطرق وإزالة الأنقاض وتنظيف المدن، ووسائل النقل الخفيفة التي تحتاجها الفرق للوصول إلى المناطق المتضررة لتقديم الخدمات، يؤدي إلى شلل كامل في القدرة على إدارة المحافظة، ما يتركها في دائرة مفرغة من الإهمال: المؤسسات غير قادرة على العمل بسبب غياب الدعم، وغياب المؤسسات يؤدي إلى استمرار تدهور البنية التحتية والخدمات.

يوضح هذا الشلل أن الوعود الحكومية الخلبية بتوقيع اتفاقيات بمليارات الدولارات لا يمكن أن يكون لها أي أثر على الأرض، لأن أي استثمار في مثل هذا الوضع لن يجد بنية إدارية أو لوجستية قادرة على استيعابه أو تنفيذه.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1240