الاقتصاد الروسي يتغيّر بوتيرة سريعة
أبقى البنك الدولي مرة أخرى روسيا في المرتبة الرابعة عالمياً في تصنيف الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية «PPP». ونتيجة لذلك، ارتفع الناتج المحلي الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية في عام 2024 من 6,45 إلى 6,92 تريليون دولار. وقد أكّد صندوق النقد الدولي أيضاً هذا التقييم.
ترجمة: أوديت الحسين
نجحت روسيا في تجاوز اليابان، التي تحتل المرتبة الخامسة، حيث عززت حجم اقتصادها مقارنة بالعام السابق. والآن يبلغ الفارق بين اقتصاد البلدين 514 مليار دولار «مقارنة بـ 264 مليار دولار في العام السابق». أما قادة التصنيف فهم كما في السابق: الصين متقدمة على الجميع بفارق كبير ــ 38,2 تريليون دولار. يليها أمريكا بـ29,2 تريليون ثم الهند بـ16,2 تريليون دولار. وتضم المراتب العشر الأولى أيضاً كلاً من ألمانيا والبرازيل وإندونيسيا وفرنسا وبريطانيا.
تعترف المؤسسات الدولية بجهود قطاع الأعمال والحكومة الروسية في مواجهة ضغط العقوبات غير المسبوق، مع الإشارة إلى قدرة الاقتصاد الروسي على التكيف مع الصدمات الخارجية.
ويرى محللو البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ثلاثة اتجاهات رئيسية سمحت للاقتصاد الروسي بالبقاء واقفاً على قدميه: إعادة توجيه ناجحة للتدفقات التجارية نحو آسيا، وإن كان ذلك بخصومات، ما ضمن تدفقاً للعملات الأجنبية. ودعم المجمع الصناعي العسكري باعتباره قاطرة للصناعات التحويلية والقطاع المعدني والكيميائي والبناء والقطاعات المرتبطة بها. والدعم الحكومي المحفز للطلب المحلي الذي بدوره، بفضل المشاريع البنيوية والقروض العقارية الميسّرة، أنعش قطاع البناء.
عادة ما ترتبط الديناميكية الجيدة للناتج المحلي الإجمالي بتوسع كبير في استهلاك الأسر والنشاط الاستثماري، وهو ما أصبح ممكناً بفضل الدفع القوي للميزانية «زيادة الإنفاق العسكري، تمويل إحلال الواردات»، وتنامي الإقراض، وارتفاع الأجور إلى أعلى مستوى منذ 16 عاماً في سوق عمل يعاني من نقص الأيدي العاملة.
وبحسب بيانات هيئة الإحصاء الروسية، فقد ساهمت الصناعات التحويلية والتجارة بالجملة والتجزئة، والأنشطة المالية والتأمين، والإدارة الحكومية وضمان الأمن العسكري، والضمان الاجتماعي، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات، بأكبر قدر في الناتج المحلي الإجمالي المحلي خلال العام الماضي. بينما أضعفت الصورة قليلاً قطاعات الزراعة واستخراج الموارد الطبيعية والعقارات.
ويعتبر خبراء معهد التنبؤات الاقتصادية التابع لأكاديمية العلوم الروسية أن المخاطر الأساسية للسياسة الاقتصادية في النصف الثاني من عام 2025 ترتبط بالبحث عن التوازن بين زيادة الدين العام «وتكاليف خدمته»، وتخفيض قيمة الروبل «وهو عامل تضخمي»، والتقشف المالي.
وقد يكون النمو الاقتصادي في الوقت الحالي مرتبطاً «بتحقيق الطلب المؤجل للفئات الميسورة من السكان، وانتعاش الإقراض مع استمرار خفض سعر الفائدة الأساسي، واستغلال إمكانيات التعاون الدولي في حال عدم تدهور الظروف الخارجية».
غير أن المسار الإيجابي قد تعرقله مخاطر جدّية مرتبطة «باحتمال تقليص صادرات النفط والمنتجات النفطية نتيجة فرض عقوبات ثانوية من جانب أمريكا على مستهلكي الهيدروكربونات الروسية».
بعد لقاء زعيمي الدولتين في ألاسكا، يبدو أن مسألة العقوبات الثانوية مؤجلة إلى أجل غير مسمى. ورغبة الطرفين في خفض التوتر ومواصلة الحوار تلقاها قطاع الأعمال بارتياح. وفي ظل العقوبات العالمية والاضطراب السياسي يمكن توقع تقوية مؤقتة للروبل، وزيادة اهتمام المستثمرين الباحثين عن أسواق أكثر استقراراً وتوقعاً بالأصول الروسية.
إن آفاق تخفيف ضغط العقوبات تخلق مناخاً مناسباً لتدفق رأس المال إلى المشاريع البنيوية وقطاعي الطاقة والتكنولوجيا، الأمر الذي قد يحفز النمو الداخلي، ويقوي السوق المحلية. ويبقى كل شيء مرهوناً بمدى نجاح تنفيذ الخطوات التالية على طريق السلام، ومدى ترسخ ثقة أمريكا بروسيا. فالتردد أو تصعيد الصراع قد يؤديان إلى تعزيز التوقعات التضخمية، وتراجع النشاط الاقتصادي، وإلى مزيد من هروب رأس المال.
إذا خُففت العقوبات فستتمكن الشركات من الوصول إلى تمويل أرخص وتكنولوجيا أفضل، ما سيرفع مستويات التوظيف والدخل والنشاط الاستهلاكي. أما إذا لم يحدث ذلك فسيقتصر تأثير الأخبار الإيجابية على تقلبات سعر الصرف، وما يترتب عليها من تغييرات في أسعار السلع المستوردة ومستوى معيشة السكان.
وبحسب نتائج المفاوضات بشأن أوكرانيا ومضمونها، يميز المحللون بين ثلاثة سيناريوهات: في السيناريو الأكثر تفاؤلاً سيؤدي تراجع التوترات الجيوسياسية وتعزيز الثقة بروسيا إلى بيئة استثمارية مواتية، تدعم سعر الروبل وتسرع النمو الاقتصادي. في السيناريو المحايد ستكون ردود فعل السوق قصيرة الأجل وغالباً خطابية، مع عودة سريعة إلى الاتجاهات الحالية. أما استمرار المواجهة أو تردد الطرفين فسيؤدي إلى إضعاف الروبل وارتفاع التضخم وتدهور رفاهية السكان. وهذا هو أسوأ سيناريو تسعى السلطات إلى تفاديه. ولضمان استدامة الاقتصاد الروسي ستكون هناك حاجة لإجراءات داخلية لتعزيز النظام المالي، وتهيئة ظروف الاستثمار الطويل الأجل.
المشكلة الرئيسية التي يراها المحللون، تكمن في أن نموذج النمو الحالي محدود الإمكانات. فالإنفاق العسكري يفرط في «تسخين» الاقتصاد، مسبباً نقصاً في الأيدي العاملة في القطاعات المدنية وضغوطاً تضخمية.
كما أن الميزان التجاري يتدهور: فائض النصف الأول من العام انخفض بنسبة 18,4 %، وتراجعت الصادرات بنسبة 6,3 % بسبب انخفاض أسعار مصادر الطاقة. ويخشى الخبراء أنه بسبب المشكلات الهيكلية ــ مثل: الاعتماد على الصادرات الأولية، والتخلف التكنولوجي، ونقص الكوادر المؤهلةــ قد تخسر روسيا موقعها هذا العام، وتهبط إلى المرتبة الخامسة متخلية عن مكانها لليابان.
ومن دون حل المشكلات الهيكلية والتخلص من الاعتماد على المواد الخام والاستثمار في رأس المال البشري والتكنولوجيا المدنية وتنويع الاقتصاد، سيكون من الصعب للغاية الحفاظ على الديناميكية الإيجابية على المدى الطويل.
وتنازع هذه المخاوف أيضاً وزارة التنمية الاقتصادية الروسية. ففي حزيران صرّح وزير التنمية الاقتصادية مكسيم ريشيتنيكوف: أن الاقتصاد الروسي على حافة الركود، لكن يمكن تجنب ذلك إذا لم ترتكب السلطات أخطاء، خصوصاً في السياسة النقدية.
ومعروف أن بنك روسيا في حزيران ولأول مرة منذ نحو ثلاث سنوات خفض سعر الفائدة الأساسي إلى 20 % سنوياً «من 21 % القياسية». وفي تموز خفضها إلى 18 %. لكن هذا وحده لا يكفي لإحياء النشاط الاقتصادي.
وقد كلّف الرئيس الحكومة بحلول الأول من تشرين الأول إقرار خطة شاملة للتغييرات الهيكلية في الاقتصاد الروسي. ويجب أن تتضمن الخطة تعديل هيكل التوظيف والاستهلاك، وتحسين مناخ الاستثمار ومستوى التطور التكنولوجي، وتحوّل بنية التجارة الخارجية و«تشكيل نوعية جديدة لها». أما المؤشرات الرئيسية على المدى القريب والمتوسط، فهي خفض مستوى الفقر، وزيادة الدخول، وتجاوز التفاوت الاجتماعي.
ويوصي المحللون بالتعامل مع تباطؤ الاقتصاد بهدوء: متابعة مؤشرات التضخم والتغييرات في التجارة الدولية، والاستجابة في الوقت المناسب للتحديات المحتملة.
وعلى الرغم من التراجع المتوقع في وتيرة النمو من 4,3 % إلى 1,5–3 % في السيناريو الأساسي للبنك المركزي، ستظل روسيا هذا العام رابع أكبر اقتصاد في العالم على أساس تعادل القوة الشرائية. وسيساعد على الحفاظ على الموقع في ظل العقوبات الصارمة والاستثمارات والطلبات الحكومية والمشاريع الفيدرالية الكبرى في مجالات البناء والنقل واستخراج ومعالجة المواد الخام.
وستساهم أيضاً في نمو الناتج المحلي الإجمالي للصناعات الزراعية والسياحة الداخلية، والقطاعات ذات القيمة المضافة العالية، بما فيها قطاع الخدمات والاستشارات والبرمجيات وأمن المعلومات.
ومهما تكن الخطط التي ستُعتمد، فإن الاقتصاد الروسي سيتطور في المدى القريب معتمداً على المجمع الصناعي العسكري، لكن قدرته كمحرك للنمو محدودة. وتفاقم المشكلةُ نقصُ الكوادر المؤهلة والتخلف التكنولوجي في القطاعات المدنية، واعتماد الميزانية على أسعار النفط، إضافة إلى محدودية الوصول إلى التكنولوجيا والأسواق والاستثمارات، ما يرفع التكاليف. كما تعيق الاستثمارات معدلاتُ التضخم وارتفاعُ كلفة القروض. ويزيد الضغط على الروبل من المخاطر التضخمية، ويؤدي إلى ارتفاع كلفة الواردات.
ولا يخفي مسؤولو بنك روسيا، أن أحد الأسباب الرئيسية لانخفاض النشاط الاقتصادي هو السياسة النقدية المتشددة التي يتبعونها لكبح التضخم، وتوجيه الاقتصاد نحو نمو متوازن.
ويرى مؤيدو السياسة النقدية المتشددة، أن الاقتصاد ذو طبيعة اندفاعية. فالقطار المسرع لا يمكن إيقافه في لحظة، والأمر نفسه ينطبق على الاقتصاد عموماً. لذلك يجب التعويل على نمو رمزي في عام 2025 والاستعداد لمواجهة مخاطر حقيقية للركود في عام 2026.
ومع ذلك، وعلى الرغم من ضغط العقوبات والسياسة النقدية الصارمة للبنك المركزي، فإن وزارة التنمية الاقتصادية الروسية تتوقع نمواً في الناتج المحلي الإجمالي بنهاية العام بنسبة 2,5 %.
ويعزز الثقة الاعترافُ بتصنيف ائتماني سيادي جديد لروسيا من وكالة Dagong International الصينية الرابعة.
إن التقييم الدولي يؤكد استقرار الاقتصاد الروسي، ويشهد على قدرته العالية على سداد الدين الخارجي، وعلى انخفاض مخاطر التخلف عن السداد، وعلى مرونته النسبية في مواجهة الظروف غير المواتية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1240