بي بي سي بين مطرقة السلطة وسندان الحقيقة: استقالات تاريخية وكشف تحيزات

بي بي سي بين مطرقة السلطة وسندان الحقيقة: استقالات تاريخية وكشف تحيزات

  مقدمة: زلزال يستهدف أقوى مؤسسة إعلامية في بريطانيا

في مشهدٍ يندر أن تتكرر حوادثه في تاريخ الإعلام العالمي، أعلن كل من "تيم ديفي" المدير العام لهيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، و"ديبورا تيرنِس" الرئيسة التنفيذية للأخبار، استقالتهما في التاسع من تشرين الثاني 2025، وسط عاصفة من الانتقادات تطال أحد أهم برامج الشبكة وأعرقها. لقد جاءت هذه الاستقالات المزدوجة بعد أيام من الكشف عن "تعديل مضلل" في خطاب للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في وثائقي أنتجه برنامج "بانوراما" قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.

هذه ليست مجرد استقالات روتينية في مؤسسة إعلامية، بل هي مؤشر على "اهتزاز أساسي" في شرعية أحد أعرق البيوتات الإعلامية في العالم، الذي طالما اعتبر نفسه حامياً للقيم الصحفية ومثالاً للموضوعية والحياد. السؤال الذي يفرض نفسه: هل نعيش لحظة انهيار أسطورة الحياد الإعلامي الغربي، أم أننا نشهد مظاهر تحول جيوسياسي أوسع في موازين القوى الإعلامية العالمية؟

 بي بي سي: من ذراع ناعم للدبلوماسية البريطانية إلى منبر للضغوط العالمية

لطالما مثلت بي بي سي، منذ تأسيسها قبل ما يزيد عن القرن، "الذراع الناعم" للسياسة الخارجية البريطانية، ووسيلة لتوصيل الرواية الغربية إلى مختلف أنحاء العالم. فقد أسستها الحكومة البريطانية عام 1922، وتحولت مع السنوات إلى واحدة من أكبر المؤسسات الإعلامية في العالم، تنقلب عليها اليوم الأزمات من كل اتجاه.

اليوم، تجد البي بي سي نفسها في موقف لا تحسد عليه، عالقة بين "مطرقة السلطة" التي أنشأتها و"سندان الحقيقة" التي تزعم الدفاع عنها. فمن جهة، تواجه اتهامات بالتحيز ضد ترامب عبر تعديل خطابه، ومن جهة أخرى تواجه اتهامات بالتحيز ضد فلسطين في تغطيتها لحرب غزة. والمفارقة الساخرة أن هذه المؤسسة التي طالما قدمت نفسها كمنبر محايد، أصبحت قياداتها تستقيل اليوم لأنها لم تعد قادرة على إرضاء جميع الأطراف.

 فضيحة التعديل على خطاب ترامب: القشة التي قصمت ظهر البعير

كان برنامج "بانوراما" قد بث وثائقياً بعنوان "ترامب: فرصة ثانية؟" قبل أسبوعين من الانتخابات الرئاسية الأمريكية في تشرين الثاني 2024. وكشفت صحيفة "التلغراف" البريطانية عن مذكرة داخلية مسربة من مايكل بريسكوت، المستشار السابق للجنة معايير التحرير في بي بي سي، أفادت بأن البرنامج "عدّل جزأين من خطاب ترامب" معاً ليبدو وكأنه يشجع صراحةً أعمال الشغب التي حدثت في مبنى الكابيتول الأمريكي في كانون الثاني 2021.

إذ كان الخطاب الأصلي: "سنتوجه إلى مبنى الكابيتول، وسنشجع أعضاء وعضوات مجلس الشيوخ والنواب الشجعان" بينما أصبح الخطاب المعدل في البرنامج: "سنتوجه إلى مبنى الكابيتول... وسأكون هناك معكم. وسنقاتل. سنقاتل بشراسة" حيث أن الفارق الزمني أكثر من 50 دقيقة بين المقطعين الأصليين.

هذا التعديل لم يكن سوى حلقة في سلسلة من الاتهامات بالتحيز. فوفقاً للمذكرة المسربة، أعرب بريسكوت أيضاً عن مخاوفه بشأن "تغطية بي بي سي عربي للحرب في غزة"، وعدم اتخاذ إجراءات لمعالجة "مشكلات منهجية" تتعلق بالتحيز ضد "إسرائيل" حسب قوله.

"ترامب"، الذي لم يترك الحدث يمر دون تعليق، هدد بمقاضاة الشبكة مليار دولار إن لم تتراجع عن الوثائقي وتعتذر، معتبراً أن "هؤلاء أشخاص غير أمناء للغاية حاولوا التدخل في الانتخابات الرئاسية". وعلقت وزيرة الثقافة البريطانية ليزا ناندي على الأمر واصفة التقارير عن تعديل المقاطع بأنها "بالغة الخطورة".

 تحول في التغطية: من تحيز صارخ إلى مواقف أكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين

خلال الحرب على غزة، تعرضت بي بي سي لانتقادات حادة من مختلف الأطراف. فمن ناحية، اتهمها مؤيدو "إسرائيل" "بالانحياز ضدها"، بينما اتهمها مؤيدو فلسطين "بالتغطية المتحيزة" لصالح "إسرائيل". واللافت أن هذه الانتقادات المتقابلة لم تكن متساوية في قوتها وتأثيرها.

فقد أشارت المذكرة المسربة إلى أن بريسكوت أعرب عن قلقه من عدم اتخاذ إجراءات لمعالجة "مشكلات منهجية" في تغطية بي بي سي عربي تتعلق بالتحيز ضد "إسرائيل". لكن في الوقت نفسه، كانت "ضغوط الشارع العالمي" المتعاطف مع المعاناة الفلسطينية تتصاعد، مما دفع الشبكة تدريجياً إلى تعديل خطابها.

على الرغم من عدم وجود إثباتات رسمية على علاقة تشغيلية بين البي بي سي و MI6، فإن الطبيعة التاريخية لجهاز الاستخبارات - الذي عمل في الخفاء لعقود قبل أن تعترف الحكومة البريطانية بوجوده رسمياً في 1994 - تترك مجالاً للتساؤلات التحليلية حول طبيعة التفاعل بين مؤسسة الإعلام الأكثر تأثيراً في بريطانيا وجهاز الاستخبارات الأبرز.

وهنا نصل إلى واحدة من أهم مفارقات هذا العصر: كيف أن مؤسسة إعلامية مثل بي بي سي، ظلت لعقود "مخلصة للرواية الغربية"، تجد نفسها اليوم مضطرة لتعديل مواقفها تحت ضغط الرأي العام العالمي، وخصوصاً فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية. فما كان يعتبر حتى وقت قريب خطاً أحمر في التغطية الإعلامية الغربية، أصبح اليوم موضع مساءلة ونقاش.

لقد أصبح من الصعب بشكل متزايد تجاهل "الصور المؤلمة" للأطفال الفلسطينيين، وتدمير البنى التحتية المدنية، والتقارير الدولية التي تتهم "إسرائيل" بانتهاكات جسيمة. وبي بي سي، كغيرها من الوسائل الإعلامية الغربية، وجدت نفسها في موقف دفاعي، تحاول الموازنة بين ولائها التقليدي للتحالف الغربي، وضرورات المصداقية الصحفية.

 الأزمة الهيكلية: بين الميثاق الملكي وضرورات العصر

أعلن تيم ديفي في بيان استقالته: "مثل جميع المؤسسات العامة، (بي بي سي ليست مثالية)، ويجب أن نكون دائماً منفتحين وشفافين وخاضعين للمساءلة". وأقر بأن "الجدل الدائر حول بي بي سي نيوز قد ساهم، ولأسباب مفهومة، في اتخاذي هذا القرار".

أما ديبورا تيرنِس، التي استقالت من منصبها كرئيسة تنفيذية لبي بي سي، فقالت إنها اتخذت "القرار الصعب بألّا يكون من دوري بعد الآن أن أقودكم في رؤيتنا الجماعية، ألا وهي السعي وراء الحقيقة دون أي أجندة". وأضافت أن "الجدل الدائر حول برنامج بانوراما بشأن الرئيس ترامب قد وصل إلى مرحلة يُلحق فيها الضرر ببي بي سي- المؤسسة التي أحبها".

هذه التصريحات تكشف عن "أزمة هوية" عميقة تعانيها المؤسسة. فبي بي سي تمول من خلال رسوم الترخيص الإلزامية التي يدفعها جميع المواطنين والمقيمين في بريطانيا، مما يفرض عليها واجب الحياد والموضوعية. لكنها في الوقت نفسه، لا تستطيع الفكاك من دورها كأداة للقوة الناعمة البريطانية.

وفي تعليقها على الاستقالات، قالت وزيرة الثقافة البريطانية ليزا ناندي: "الآن، أكثر من أي وقت مضى، تُعدّ الحاجة إلى أخبار موثوقة وبرامج عالية الجودة أمراً أساسياً لحياتنا الديمقراطية والثقافية، ومكانتنا في العالم". لكن السؤال الذي تطرحه هذه الأزمة: أخبار موثوقة وفقاً لمن؟ وبرامج عالية الجودة بحسب أي معايير؟

 خاتمة: انهيار أسطورة الحياد أم ولادة صحافة جديدة؟

استقالة ديفي وتيرنِس ليستا مجرد حلقة في مسيرة بي بي سي، بل هي مؤشر على "تحول جيوسياسي أوسع". فالعالم لم يعد ذلك العالم الذي كانت فيه وسائل الإعلام الغربية تحتكر تعريف الحقيقة والموضوعية. لقد سقطت ورقة التوت عن أسطورة الحياد الإعلامي، وها هي بي بي سي، كغيرها من المؤسسات الإعلامية الغربية، تكافح للبقاء ذات صلة في عالم متعدد الأقطاب.

المفارقة الساخرة أن ترامب، الذي يمثل بدوره نموذجاً للشعبوية اليمينية، وجد نفسه في خندق واحد مع نقاد بي بي سي من اليسار، الذين طالما شككوا في نزاهة الشبكة وحيادها. فكلاهما، وإن من منطلقات مختلفة، يرى في بي بي سي رمزاً للنظام القائم الذي يجب تحطيمه.

ربما يكون ما نعيشه اليوم هو لحظة "ولادة صحافة جديدة"، تتجاوز الثنائيات التقليدية. صحافة تدرك أن الحياد الحقيقي ليس في عدم الانحياز، بل في الانحياز الواضح للقيم الإنسانية الأساسية، بغض النظر عن الجهة التي تنتهكها.