حذف الصفرين من العملة: من يحمي السوريين من ظاهرة «التقريب السعري»؟
أعلن حاكم مصرف سورية المركزي، عبد القادر الحصرية، مؤخراً عن خطة لطباعة فئات جديدة من العملة السورية، مع تعديل يتضمن حذف صفرين من قيمتها الاسمية. وأثار هذا الإعلان، الذي يأتي في سياق يتسم أساساً بالتدهور الاقتصادي، ترقباً واسعاً حول تفاصيل عملية الطرح وآلياتها. وقد أشارت التصريحات الرسمية إلى أن العملة الجديدة سيتم طرحها على ثلاث مراحل، مع توقعات بأن تكون المرحلة الأولى في شهر كانون الأول المقبل. ووفقاً لحاكم المصرف، فإن الكميات المطبوعة من هذه العملة ستكون «مدروسة بدقة بما يتناسب مع متطلبات الاقتصاد الوطني»، لكن ظلت التفاصيل الرسمية حول الجهات المنوط بها طباعة هذه العملة مبهمة، غير أن تقارير إخبارية تحدثت عن محادثات متقدمة مع شركات دولية تشمل شركة «عملات للطباعة الأمنية» الإماراتية وشركتي «بوندسدروكيراي» و«جيسيك بلس ديفرينت» الألمانيتين، بينما أشارت مصادر أخرى إلى اتفاق مع شركة «جوزناك» الروسية الحكومية، التي سبق لها طباعة العملة السورية.
ما إن تم الإعلان عن خطوة تغيير العملة بحذف الصفرين، حتى انطلقت حملة إعلامية واسعة حاولت تصوير هذه الخطوة على أنها «ضرورية وحاسمة» لتحقيق تحسن ملموس في الأوضاع الاقتصادية. وقد ركزت هذه الحملة على إعطاء انطباع بأن حذف الأصفار سيؤدي إلى «تحسين القدرة الشرائية» و«كبح جماح التضخم». حيث أكد البعض ممن تبنوا هذا الطرح أن للقرار أثراً نفسياً إيجابياً، حيث «يعزز من ثقة المواطنين بالعملة الوطنية ويسهل المعاملات اليومية».
لكن المعطيات الاقتصادية على أرض الواقع تشير إلى أن هذا الخطاب لا يتطابق مع الحقيقة الملموسة إطلاقاً. حيث لا تزال الليرة السورية تتراجع باستمرار أمام الدولار الأمريكي، ويعاني الاقتصاد السوري يعاني من تضخم مزمن، يتجاوز كونه ظاهرة نقدية، ويعود في جوهره إلى عوامل عميقة مثل ضعف الإنتاج الحقيقي، وتدمير البنية التحتية، والعجز المالي المستمر. وفي ظل هذا الواقع، فإن هذه الخطوة لا تتعدى كونها إجراءاً شكلانياً تجميلياً، يهدف لإعطاء إيحاء بالحركة في اقتصاد مشلول، دون معالجة الأسباب الجذرية التي أدت إلى الانهيار. والإصرار على هذا النمط من الإجراءات الشكلية لن يزيد الوضع إلا تعقيداً وسوءاً بالنسبة للسوريين.
المشكلة في «الوزن» وليس في «المقياس»!
يعد قرار حذف الأصفار من العملة الوطنية إجراءً تقنياً بحتاً، يعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ«إعادة القياس Redenomination». وهو لا يغير في جوهره من القيمة الحقيقية للعملة، بل يهدف فقط إلى تبسيط التعاملات المالية وتقليل عدد الأصفار في الأرقام الكبيرة، والتي أصبحت سمة مميزة لاقتصادات التضخم المفرط.
ولفهم هذا المفهوم بشكل مبسط، يمكن القول: إذا كان سعر سلعة ما اليوم يبلغ 10,000 ليرة سورية، فإن حذف الصفرين سيجعل سعرها 100 ليرة جديدة. وبالمثل، فإن راتب الموظف الذي يبلغ مليون ليرة قديمة سيتحول إلى 10,000 ليرة جديدة. وفي كلتا الحالتين، فإن القوة الشرائية للمواطن لم تتغير. فلا هو يستطيع شراء سلع أكثر مما كان يشتري سابقاً، ولا التاجر سيحصل على إيرادات أقل. حذف الأصفار يشبه تماماً قرار تغيير وحدة القياس من السنتيمتر إلى المتر، فالعلاقة بينهما ثابتة (1 متر = 100 سم)، لكنك تستخدم رقماً أصغر للتعبير عن الطول نفسه. وبالطريقة ذاتها، القيمة أو الوزن الحقيقي للعملة يظل ثابتاً، والفرق الوحيد هو في المقياس.
يزعم المؤيدون لهذا الإجراء أنه يمثّل استجابة لمشكلة عملية. فبعد سنوات من التضخم المفرط، أصبح تداول الأوراق النقدية بآلاف وملايين الليرات أمراً مرهقاً وغير عملي، سواء للمستهلكين أو لأنظمة المحاسبة في البنوك والشركات. لكنهم يغفلون حقيقة أكثر عمقاً، وهي أن تركيز السلطات على هذا الجانب الشكلي، هو اعتراف ضمني بأن السلطات أعلنت استسلامها في عملية التحكم بقيمة العملة، فأصبحت تسعى فقط إلى «تيسير التعامل بها». وعليه، حتى لو سلمنا بفكرة أن هذه الخطوة ستسهل التعامل بالليرة، إلا أنها لا تعالج جوهر المشكلة: لماذا انهارت قيمة العملة إلى هذا الحد؟
إن دحض الادعاءات التي تربط هذا الإجراء بتحسين القوة الشرائية أو كبح التضخم يتطلب فهماً أعمق للأسباب الحقيقية للأزمة. فالقوة الشرائية للعملة تحددها عوامل الاقتصاد الكلي الحقيقية، ومن أبرز هذه العوامل: ضعف الإنتاج المحلي، حيث يعتمد الاقتصاد السوري بشكل كبير على الواردات بدلاً من تعزيز الإنتاج المحلي. ونقص الاحتياطيات الأجنبية الكافية لدعم العملة. والعجز المالي، حيث يتم تمويل الإنفاق الحكومي عبر طباعة النقود، مما يغذي التضخم بشكل مباشر.
وعليه، لكي يعطي حذف الأصفار أي نتيجة إيجابية فعلية، لا بد من توفر شروط اقتصادية كبرى غير متحققة في سورية اليوم. حيث يحتاج استقرار العملة في مثل هذه الخطوة إلى تحفيز القطاع الإنتاجي، وسياسات توزيع ثروة عادلة، وسياسات نقدية ومالية صارمة ومتوازنة وخالية من التلاعب. وليس في سورية أي إشارات على نية لتطبيق مثل هذه السياسات المصاحبة. فالنظام الاقتصادي المهيمن يتمحور حول «اقتصاد السوق المفتوح» دون رقابة، مع تضخم مالي كبير ونقص حاد في العملة الصعبة. وفي مثل هذه الظروف، تؤكد دراسات حالة دول حاولت أن تزين وتجمل التضخم وأن إعادة تقييم العملة تصبح «مضيعة للوقت» ما لم تعالج مسببات التضخم الحقيقية.
ولذلك، فإن أي إجراء نقدي، بما في ذلك حذف الأصفار، لن يغير من هذا الواقع ما لم يترافق مع تغيير اقتصادي جذري يدعم الإنتاج المحلي، ويحسن الميزان التجاري، وينهي النهب والفساد. وفي غياب هذا التغيير، ستظل هذه الخطوة مجرد رقم إضافي في سجل الأزمات، بل وستدفع للمزيد من إفقار السوريين، حيث ستفتح الباب أمام موجة جديدة من التضخم المقنع تسمح للتجار برفع الأسعار «لتسهيل الحسابات» أو «لتعويض تكاليف التحويل»، وهو ما حدث في تجارب سابقة عندما استغل التجار عمليات إعادة التقييم لرفع الأسعار بشكل غير مبرر. وبدلاً من أن تكون الخطوة حلاً، تصبح عبئاً إضافياً على كاهل المواطنين الذين سيدفعون ثمن الارتباك الإداري والاقتصادي الناتج عن هذه العملية.
Price Rounding: ضربة «خفية» لأصحاب الأجور في سورية
تاريخياً، لجأت العديد من الدول التي عانت من التضخم المفرط إلى سياسة حذف الأصفار من عملاتها، ولكن نتائج هذه التجارب كانت متباينة، وتؤكد أن نجاح هذا الإجراء يتوقف كلياً على وجود برنامج تغيير اقتصادي شامل. وفي غياب هذا الإطار، تتحول العملية إلى مجرد خطوة شكلية لا تزيد الوضع إلا سوءاً، وهو ما يمكن استخلاصه من تجارب دول عدة.
تعتبر تجربة فنزويلا مثالاً حياً على فشل هذه السياسة. ففي ظل الانهيار الاقتصادي والتضخم المفرط، قامت الحكومة الفنزويلية بحذف خمسة أصفار من عملتها «البوليفار» في عام 2018، ثم عادت وحذفت ستة أصفار أخرى في عام 2021. ورغم هذه الإجراءات، لم تنجح البلاد في كبح جماح التضخم، الذي وصل إلى مستويات فلكية. وقد أرجع محللون هذا الفشل إلى إصرار الحكومة على الإجراءات النقدية دون معالجة الأسباب الجذرية للأزمة، مثل سوء توزيع الثروة وسوء الإدارة والفساد المستشري. وفي الواقع، فإن الكثير من المواطنين هناك أصبحوا يسابقون الزمن للتخلص من عملتهم المحلية قبل أن تفقد قيمتها بشكل أكبر.
أما تجربة زيمبابوي فهي الأكثر تطرفاً في هذا المجال. حيث حذفت الحكومة في زيمبابوي ثلاثة أصفار في عام 2003، ثم قامت لاحقاً بحذف 12 صفراً إضافياً في عام 2008. ورغم هذه الخطوات، استمر التضخم في الارتفاع بشكل جنوني، حتى اضطرت الحكومة في النهاية إلى التخلي عن العملة الوطنية بالكامل واعتماد الدولار الأمريكي في المعاملات.
ولم تكن تجربة الأرجنتين بأفضل حالاً. فقد قامت بحذف الأصفار من عملتها أكثر من مرة، ولكن النتيجة كانت استمرار التضخم والأزمات الاقتصادية المتكررة، لغياب التغييرات الاقتصادية المطلوبة. وعلى النقيض، فإن تجربة تركيا عام 2005، التي حذفت ستة أصفار من عملتها، اعتبرت ناجحة، ليس بسبب الحذف بحد ذاته، بل لأنه ترافق مع نمو اقتصادي حقيقي، واحتياطي نقدي كبير، وسياسات داعمة للإنتاج والصادرات، وهو عكس السياسات الاقتصادية للسلطة الحالية تماماً.
الجدير بالذكر أن أبرز مخاطر هذه السياسة، والتي غالباً ما تتجاهلها الحكومات، هي ظاهرة «التقريب السعري Price Rounding». ففي ظل غياب الرقابة الفعالة على الأسواق، يقوم التجار باستغلال ارتباك المستهلكين بعد تغيير العملة لتقريب أسعار السلع إلى الأعلى. على سبيل المثال، قد يتم تسعير منتج ما بـ17.5 ليرة جديدة، ولكن في الواقع العملي، يقوم التاجر بتقريب السعر إلى 20 ليرة جديدة. وهذه الزيادة، التي قد تبدو صغيرة في كل عملية، تتراكم لتشكل ارتفاعاً صامتاً في الأسعار، يضاف إلى التضخم القائم بالفعل. وفي الحالة السورية، حيث تؤكد السلطات على «اقتصاد السوق المفتوح» دون رقيب أو حسيب، فإن هذا السيناريو محتمل بشدة. وهذه العملية ليست سوى «ضريبة خفية» توجه لأصحاب الأجور في سورية، والذين لا يملكون القدرة على حماية مدخراتهم بتحويلها إلى الدولار أو الذهب، مما يضعف قدرتهم الشرائية المتهالكة أصلاً.
هل هنالك حلول لكبح جماح التضخم السوري؟
حذف الأصفار في جوهره مجرد أداة تقنية محاسبية لتحسين المظهر الرقمي للعملة، وليس سياسة فعالة لمكافحة التضخم. وتشير الدراسات الرصينة كلها إلى أن إعادة تقييم العملة تستخدم لإدارة أعراض التضخم (كالأرقام الكبيرة وضعف الثقة) وليس أسبابه (مثل النهب والفساد والعجز المالي وضعف الإنتاج). حتى تعريف التعديل النقدي يؤكد أنه «لا يغير القوة الشرائية» ذاتها، وأن هذه التجربة تصبح عديمة الجدوى إن لم تعالج مسببات التضخم. في زيمبابوي مثلاً تبين أن المحاولات المتكررة لتقليل الأصفار كانت عقيمة دون وقف طباعة النقود ووقف الانهيار الاقتصادي ودعم الإنتاج. وبناءً عليه، فإن نجاح مثل هذه الخطوة في سورية مرهون بتوفر الإرادة السياسية لحل المشكلات الأكثر جوهرية، مثل الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي والثقة العامة المنعدمة اليوم. وأكثر ما يزيد الأمر تعقيداً هو أن البلاد ما تزال منقسمة فعلياً بواقع نقدي مجزأ، ويضع هذا الانقسام سؤالاً حول مدى قبول العملة الجديدة في المناطق السورية كلها.
قد يؤدي استبدال العملة الوطنية بعملة جديدة - مع كل ما يتطلبه هذا من مسائل لوجستية وإجراءات بيروقراطية - بالنسبة للمناطق غير المستقرة سياسياً وليست على علاقة جيدة مع السلطة إلى تعزيز الانقسام بدلاً من الدفع في اتجاه التوحيد.
التضخم، في جوهره، هو زيادة في كمية النقد المتداول بالنسبة لحجم السلع والخدمات المتاحة في الاقتصاد. عندما تطبع الدولة النقود بشكل غير مدعوم بالإنتاج لتمويل عجز موازنتها أو لشراء العملة الصعبة، كما يحصل في سورية، فإن كمية النقود تزيد بينما تبقى كمية السلع ثابتة أو تتناقص، مما يؤدي إلى انخفاض قيمة كل وحدة نقدية (أي ارتفاع الأسعار). وحذف الأصفار لا يؤثر أبداً على هذه المعادلة الأساسية. فهو لا يقلص كمية النقد المتداول ولا يزيد من حجم الإنتاج المحلي من الغذاء والدواء والسلع الأساسية. وإذا استمرت الحكومة في طباعة النقود الجديدة بنفس الوتيرة السابقة لتمويل عجزها، فسيستمر التضخم، وسرعان ما ستبدأ الأصفار بالظهور مرة أخرى على العملة «الجديدة»، كما حصل في التجارب الدولية التي ذكرناها.
فما هو الحل إذن؟ الجواب يكمن في مقولة كُتبت على صفحات هذه الجريدة مراراً وتكراراً، وهي أنه لا يوجد حلول اقتصادية في سورية اليوم، بل إن المفتاح لحل جميع المشاكل يبدأ أولاً وأخيراً بالدفع في اتجاه حل القضايا السياسية ذات الأولوية، وعلى رأسها إعادة توحيد البلاد سياسياً واقتصادياً، واستعادة الأمن والاستقرار، وإنهاء الفساد والنهب، تمهيداً للخطوات الضرورية اللاحقة. وعلى الصعيد الاقتصادي، فإن أي حل حقيقي لمشكلة التضخم يبدأ بالتعامل مع أسبابها الحقيقية لا أعراضها، والمدخل إلى ذلك هو دعم الإنتاج الوطني، وزيادة الاستثمار في القطاعات الإنتاجية الحقيقية بما فيها تلك المرتبطة بالبنى التحتية، ووضع سياسات نمو ذات أولويات واضحة تخدم مصلحة السوريين أولاً، وهذا يتطلب نموذجاً اقتصادياً يضمن أعمق عدالة اجتماعية وأعلى نمو اقتصادي، حيث لا ينبغي أن يسخر الاقتصاد لخدمة قلة ثرية تعتاش على نهب الاقتصاد الوطني كما في الماضي، بل يجب توزيع الثروة والدخل بشكل أكثر إنصافاً بين السوريين جميعاً، ولمصلحة أصحاب الأجور أولاً.
باختصار، إن أي إجراء شكلي مثل هذا، في ظل غياب تغيير سياسي واقتصادي جذري سيبقى خطوة هامشية لن تزيد وضع السوريين إلا تعقيداً. ولن يتحقق أي تحسن فعلي في معيشة المواطن أو القوة الشرائية إلا بالبدء الفوري بالتغيير المطلوب. وإلا فإن تنفيذ حذف الصفرين، أو غيره من السياسات، لن يكون سوى عمليات تحريك مزيفة لاقتصاد مشلول، وهي عمليات يدفع ثمنها الشعب السوري من أجوره التي ستواجه مزيداً من القضم.
الأهم هو الكارثة القادمة: تبييض الأموال المنهوبة!
إذا كان الخطر المباشر الذي يهدد السوريين من عملية حذف الصفرين يتمثل في ظاهرة «التقريب السعري» وما سيحمله من تآكل إضافي في الأجور والمدخرات الصغيرة، فإن الخطر الأكبر والأعمق، يتمثل في الكارثة القادمة وجوهرها: تبييض الأموال المنهوبة. ففي جميع التجارب الدولية التي حققت نجاحاً نسبياً في عمليات استبدال العملة، لم يكن الهدف المحوري مجرد تسهيل المعاملات أو تقليص عدد الأصفار، بل إعادة توزيع الثروة ومعاقبة الفئات التي راكمت ثرواتها بطرق غير شرعية على حساب المجتمع.
ولعل أبرز ما يميز التجارب الناجحة في هذا المجال، بما في ذلك التجربة الشهيرة للاتحاد السوفييتي بعد الحرب العالمية الثانية، هو أن قرار استبدال العملة كان يتم بسرية تامة. والسرية لم تكن مجرد إجراء أمني، بل كانت ضمانة حقيقية لنجاح العملية، لأنها تمنع أصحاب الرساميل الكبيرة، وغالبيتهم ممن جمعوا ثرواتهم عبر الفساد والنهب، من التهرب أو الاستعداد المسبق. وقد اقتصر عدد الأشخاص الذين علموا مسبقاً بالقرار على عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، ما سمح بتنفيذ العملية بشكل مفاجئ وحرمان الفاسدين من فرصة التصرف بأموالهم المنهوبة.
الشرط الثاني الذي ميز عمليات الاستبدال الناجحة هو وجود جدول تبديل للعملة يأخذ في الاعتبار مصدر الأموال وحجمها. فالأموال المودعة في الحسابات المصرفية، أي المصرح عنها رسمياً ومصادرها معروفة، كانت تُستبدل بنسبة (1 إلى 1)، أي أن أصحابها يحصلون على قيمتها كاملة بالعملة الجديدة. لكن الأموال النقدية (الكاش) المتداولة خارج النظام المصرفي كانت تخضع لجداول تنازلية: فمثلاً، يتم استبدال أول عشرة ملايين بنسبة (1 إلى 1)، أما مئة مليون فتستبدل بنسبة (10 إلى 1)، والمليار بنسبة (100 إلى 1). بهذه الآلية، حافظت الدول على القيمة الحقيقية لمدخرات المواطنين، وفي المقابل تراجعت القيمة الحقيقية لثروات النخب الفاسدة، وهو ما يمثل إعادة توزيع للثروة لصالح المجتمع.
في الحالة السورية، ما جرى هو العكس تماماً. فقد تم الإعلان عن نية حذف الصفرين قبل أشهر من موعد التنفيذ، عبر تصريحات رسمية وحملات إعلامية. وهذا الإعلان المبكر ليس مجرد «خطأ في التكتيك»، بل مؤشر صريح على أن الهدف من العملية لم يكن أبداً إعادة توزيع الثروة، بل العكس تماماً. فبهذا الشكل، تم منح الفاسدين أصحاب الثروات الكبرى، الذين يحتفظ بعضهم بمئات مليارات الليرات السورية المنهوبة، فرصة ذهبية للتصرف بأموالهم. وهؤلاء، سواء في الداخل أو في دول الجوار والإقليم التي تُستخدم فيها الليرة كأداة ضغط سياسي، سيسارعوان للتخلص من مخزونهم الضخم من العملة، ما سيؤدي إلى زيادة هائلة في عرض الليرة في السوق، وبالتالي تسريع فقدانها لقيمتها بمعدلات غير مسبوقة.
الأهم من ذلك، أن السماح للناهبين الكبار، القدامى والجدد، بتبديل أي كمية يملكونها من الليرة القديمة إلى الليرة الجديدة، يعني ببساطة أن الدولة تقوم بتنظيم عملية تبييض لأموال الفساد. وبالمنظور الطبقي، فإن العملية لا تستهدف سوى حماية مصالح النخب التي نهبت مقدرات البلاد خلال عقود، وتحويل أموالها من «ثروات مشبوهة» إلى ثروات نظيفة مقوننة بالعملة الجديدة. وهكذا، بدلاً من أن تكون عملية الاستبدال فرصة لمعاقبة الفاسدين ورد الاعتبار للمواطنين، تتحول إلى أكبر عملية تبييض أموال رسمية في التاريخ السوري.
إذا تأملنا في التجارب الفاشلة لعمليات استبدال العملة، نجد أنها جميعها اشتركت في غياب السرية، وهو ما سمح للأثرياء الفاسدين بتحويل الأزمة إلى فرصة لتعظيم ثرواتهم، حيث كانت النتيجة مزيداً من التضخم وتدهوراً إضافياً في قيمة العملة، لأن من كان يملك الأموال المنهوبة استطاع أن يستفيد من الإعلان المسبق، فيما خسر المواطن العادي كل ما يملك. واليوم، تبدو سورية متجهة إلى السيناريو نفسه: الإعلان المبكر، وغياب السرية، وعدم وجود جدول تبديل عادل، ما يفتح الباب واسعاً أمام الناهبين لتحويل أموالهم المنهوبة إلى عملة «جديدة» نظيفة.
النتيجة المباشرة لهذه العملية ستكون موجة تضخم أعنف من أي وقت مضى، حيث سيضخ أصحاب الرساميل الضخمة كميات هائلة من الليرات القديمة إلى السوق، ليتخلصوا منها قبل استبدالها. وهذا العرض الكبير سيقود إلى انهيار إضافي في قيمتها، يدفع ثمنه المواطن السوري عبر ارتفاع الأسعار الجنوني. والنتيجة الأبعد مدى هي أن عملية الاستبدال ستفقد معناها منذ اليوم الأول، لأن «الليرة الجديدة» ستولد مثقلة بالتضخم وفاقدة للثقة، تماماً كما ولدت «الليرة الحالية» بعد طبعاتها المتتالية بلا رصيد.
في النهاية، كما في كل السياسات الاقتصادية المتبعة سابقاً، سيكون الخاسر الأكبر هو المواطن السوري. فأصحاب الأجور المنخفضة ومدخرو «القرش الأبيض لليوم الأسود» لن يتمكنوا من حماية ما يملكونه من الانهيار، بينما الناهبون الكبار سيخرجون من هذه العملية أكثر قوة ونفوذاً، بعدما حصلوا على ختم «الشرعية» على ثرواتهم المنهوبة. وبذلك، يتحول مشروع حذف الصفرين من فرصة إصلاحية - كان يمكن لو طبق بشروط السرية والعدالة أن يحقق إعادة توزيع للثروة - إلى أداة جديدة لإعادة إنتاج الفساد وتوسيع الهوة الطبقية بين قلة متخمة بالمال، وأغلبية مسحوقة لا تملك سوى انتظار الكارثة القادمة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1241