«فرص» استثمارية بعائدية 10% فقط... إعادة إعمار أم إعادة إنتاج الفشل؟
شهدت دمشق يوم 24 تموز 2025 انعقاد المنتدى الاستثماري السوري - السعودي الأول من نوعه منذ سقوط السلطة السابقة، وذلك بمشاركة وفد سعودي رفيع المستوى وشركات من الجانبين. خلال المنتدى وزعت محافظة دمشق على المستثمرين السعوديين كتيباً حمل عنوان «حقيبة المشاريع الاستراتيجية»، وهو عبارة عن مجموعة من «الفرص الاستثمارية» من إعداد دائرة الاستثمار وتطوير الأعمال التابعة للمحافظة. وبعيداً عن تفاصيل هذه الفرص وكونها تشمل تحويل العديد من الأماكن الحساسة في دمشق، مثل أبنية وزارة الدفاع وهيئة الأركان العامة وأرض معرض دمشق الدولي القديم وغيرها الكثير إلى مشاريع سياحية وعقارية ليست ذات أولوية ولا ذات جدوى في الوضع السوري، كان من المثير للانتباه أن معظم هذه المشاريع - التي من المفترض بها أن تجذب المستثمرين - حُدٍّدت لها نسب عائدية على الاستثمار لا تتجاوز 10%.
قد يبدو للوهلة الأولى أن عائدية بنسبة 10% هي نسبة معقولة في دولة خارجة من الحرب، لكن المقارنة التاريخية والمعطيات الاقتصادية تشير إلى عكس ذلك تماماً. فعلى أيام السلطة السابقة، ورغم كل ما شاب الاقتصاد حينها من كوارث وتدمير ممنهج، كانت عائدية الاستثمار تدور حول 20% في بعض القطاعات، أي أن كل خمس ليرات كانت تُستثمر في الاقتصاد السوري لم تكن تنتج أكثر من ليرة واحدة كعائد في أفضل الأحوال. وهذه نسبة اعتبرناها آنذاك ضئيلة جداً وعلامة على ضعف كفاءة الاقتصاد وانتشار النهب والفساد. فكيف لنا اليوم أن نقبل بعائدية تبلغ نصف ذلك (10% فقط) ونعدها مشجعة؟
تطرح هذه المفارقة تساؤلات جدية حول جدوى السياسات الاقتصادية الحالية، وإلى أي حد تستفيد فعلاً من الفرص الكامنة لإعادة الإعمار والنهوض بالاقتصاد السوري، وتشير إلى أي مدى يتمتع أصحاب القرار الاقتصادي في سورية اليوم بالعقلية الاقتصادية ضيقة الأفق ذاتها التي كانت موجودة لدى أصحاب القرار أيام السلطة الساقطة. فالحديث عن نسبة عائدية لا تتجاوز 10% في السياق السوري الراهن هو حديث مخجل على جميع الأصعدة، والأهم أن هذه النسبة هي أقل بكثير مما هو ممكن موضوعياً.
ما هي عائدية الاستثمار... ولماذا هي منخفضة في سورية؟
نسبة عائدية الاستثمار ليست مجرد رقم اقتصادي عابر، بل واحدة من أهم مؤشرات الاقتصاد التي تعكس فعاليته وقدرته على توليد عائد من كل ليرة أو دولار يُستثمر. وفي حالة سورية، التي لم تتعافَ بعد 14 عاماً من الأزمة والحرب، يصبح لهذا المؤشر وزن مضاعف، حيث يعول السوريون على تحقيق قفزات نمو ضرورية لتعويض الدمار والخراب الذي لحق بالبنية التحتية والقطاعات الإنتاجية. وهنا تأتي التصريحات الرسمية، سواء تلك التي خرجت في أوائل العام الماضي وتوقعت نسبة نمو تقارب 1% في عام 2025 أو المروجة لعائدية 10% في المشاريع الجديدة، لتبدو بعيدة كل البعد عن هذه الطموحات الموضوعية. فتجارب دولية عديدة تؤكد أن الاقتصادات الخارجة من الحروب غالباً ما تحقق معدلات نمو استثنائية في بدايات مرحلة إعادة الإعمار.
على سبيل المثال، سجّل اقتصاد فيتنام بعد حربه الطويلة معدلات نمو سنوية تجاوزت 6–7% منذ التسعينيات، وحققت البوسنة والهرسك نمواً بنسبة هائلة بلغت نحو 70% في العام الأول بعد الحرب (1996) قبل أن تستقر عند بين 6 و10% سنوياً في أواخر التسعينيات. وكذلك شهدت رواندا انتعاشاً كبيراً بعد الإبادة الجماعية، مع نمو بلغ 9% عام 1995 وارتفع إلى 13% عام 1996. وهنا نتحدث عن دول محدودة الإمكانات والوزن، ولم نستحضر أمثلة من دول أكبر مثل الصين والاتحاد السوفييتي حيث تم تحقيق نسب نمو وازنة.
تجسد هذه الأمثلة رسائل واضحة مفادها أن مرحلة ما بعد الحرب ينبغي أن تكون حقبة نمو متسارع وعائدية عالية على الاستثمار، لا فترة اكتفاء بنسب متواضعة أشبه بحالة جمود اقتصادي. وفي ضوء هذه المقارنة، فإن الحديث عن 1% نمو أو 10% عائدية في سورية يبدو معيباً ومخيّباً للآمال قياساً بحجم التحديات وحاجة البلاد الملحّة للتعافي السريع.
لقد عانى الاقتصاد السوري طويلاً من مشكلة ضعف عائدية الاستثمار وتدني فعالية رأس المال. حيث تشير الدراسات الاقتصادية المنشورة في قاسيون سابقاً إلى أن نسبة عائدية الاستثمار في سورية بلغت ذروتها في أوائل السبعينيات بنحو 42%. لكن هذه النسبة تراجعت تدريجياً على مدار العقود اللاحقة، فانخفضت إلى نحو 20% وسطياً خلال الفترة بين 2004 و2010، ثم هوت بشكل حاد خلال سنوات الحرب لتصل إلى 11.6% فقط في عام 2015.
ما الذي أدى إلى هذا التدهور المزمن في عائدية الاستثمار؟ الأسباب البنيوية وراء هذا الانخفاض متعددة، لكن يمكن تلخيصها في عاملين رئيسيين مترابطين: ضعف كفاءة الاقتصاد الوطني من جهة، والنهب المنهجي للموارد من جهة أخرى. فعلى مدى عقود، تراجع نمو الناتج الوطني وضعفت إنتاجية القطاعات، في حين استمر الجزء الأكبر من الدخل يوزع لمصلحة فئة ضيقة من أصحاب النفوذ والأرباح. وتفيد تقديرات قاسيون بأن الفاقد الاقتصادي الناتج عن الفساد والنهب المنظم شكل نحو 30% من الدخل الوطني في السبعينيات، وارتفع مع مرور الزمن حتى بلغ مستويات كارثية تقارب 60 إلى 70% من الدخل الوطني في السنوات الأخيرة قبل سقوط النظام السابق. بعبارة أخرى، كان الاقتصاد السوري ينزف نحو ثلثي عائداته في جيوب قلة قليلة، بدلاً من أن يعاد استثمارها في تحسين الإنتاج وتوسيع القاعدة الاقتصادية. وهذا النهب الكبير أثر مباشرة على عائدية رأس المال الموظف في الاقتصاد، فإذا كان 60% أو أكثر من قيمة ما ينتج يسرق أو يهدر، فمن الطبيعي أن تكون نسبة العائد المحققة من الاستثمار متدنية جداً.
إضافة إلى ذلك، فإن سياسات النموذج الاقتصادي السابق ركزت على توزيع غير عادل للدخل الوطني مما عمّق الأزمة. فقد كشفت البيانات التي أفصحت عنها حكومة النظام الساقط في آخر سنة من عمرها (2024) أن حصة أصحاب الأجور (العمال والموظفين) لم تتجاوز 9.2% من الناتج الإجمالي للبلاد، بينما استحوذ أصحاب الأرباح على 90.8% منه.
كيف يمكن أن نرفع عائدية الاستثمار؟
إن اعتبار 10% هدفاً مقبولاً للعائدية هو بحد ذاته جزء من المشكلة، لأنه يعكس إما تواضع الطموح الرسمي أو استمرار الموانع القديمة التي تحول دون تحقيق عوائد أكبر. وكلا الاحتمالين مدعاة للقلق وبحاجة لمعالجة سريعة كي لا تتحول مرحلة ما بعد الحرب إلى فرصة ضائعة أخرى تضاف إلى سجل الاقتصاد السوري.
كلمة السر لتحقيق نمو اقتصادي مستدام في سورية هي العائدية، التي تعكس قدرة الاستثمارات على تحقيق عوائد كبيرة تتجاوز تكلفتها وتدفع عجلة التنمية. وكان تدني نسب العائدية في سورية يمثل العقبة الأبرز أمام تحقيق النمو كما أسلفنا سابقاً. لكن رفع هذه العائدية إلى مستويات أعلى بكثير، قد تصل إلى 100% أو أكثر، ليس أمراً مستحيلاً إذا ما تم التركيز على استثمارات تستند إلى الميزات المطلقة التي تتميز بها سورية، بدلاً من مجرد الاعتماد على الميزات النسبية التقليدية التي أصبحت غير كافية.
الميزات النسبية، مثل المواد الخام كالنفط والقمح والقطن، تعتمد على توافر الموارد الطبيعية، لكنها تتعرض لمنافسة شرسة في الأسواق الدولية، ما يُبقي هوامش الربح محدودة للغاية. وقام النموذج الاقتصادي السوري بشكل أساسي على هذه الميزات، حيث ركز على تصدير المواد الخام بدلاً من تصنيعها، مما أدى إلى ضعف العائدية وفقدان الفرص لتحقيق قيمة مضافة عالية محلياً.
على النقيض، فإن الميزات المطلقة هي تلك الموارد أو المنتجات التي تنفرد بها سورية نتيجة ظروف جغرافية أو طبيعية خاصة، مثل بعض المنتجات الزراعية الخاصة بسورية والنباتات الطبية النادرة والأحجار الطبيعية... وغيرها. ويمكن لهذه الموارد أن تحقق عوائد ضخمة إذا تم استغلالها بشكل صحيح، عبر إنشاء صناعات محلية تحولها إلى منتجات ذات قيمة مضافة عالية تُنافس في الأسواق العالمية بأسعار مميزة. فبدلاً من تصدير المواد السورية كمنتج خام، يمكن تحويلها إلى منتجات نهائية تُباع بأضعاف السعر، مما يعزز العائدية ويوفر فرص عمل محلية.
تتطلب الاستفادة من الميزات المطلقة تجاوز الوضع الاقتصادي الحالي وبناء نظام اقتصادي عادل يضمن توزيع الموارد بما يخدم مصلحة الشعب السوري. فالنهب المنظم الذي استنزف الموارد الوطنية لعقود كان العقبة الرئيسية أمام تحقيق التراكم الاستثماري الضروري للنمو.
اقتصاد قائم على استثمار الميزات المطلقة إلى الحد الأقصى محلياً لا يحقق فقط عائدية عالية، بل يعزز السيادة الاقتصادية لسورية ويقلل التبعية للخارج. بدلاً من استنساخ نماذج اقتصادية تعتمد على تصدير المواد الخام، تحتاج سورية إلى استراتيجية تقوم على تطوير الصناعات المرتبطة بميزاتها الفريدة. وهذه الرؤية ليست مجرد خيار اقتصادي، بل هي ضرورة وطنية تمثل الحل الأمثل لتحقيق الاستقرار والنمو.
الاستثمار بالميزات المطلقة... ووضع أولويات للاستثمار
إذا كانت العائدية هي كلمة السر لتحقيق انطلاقة اقتصادية جديدة في سورية، فلا بد إذن من البحث في كيفية رفع هذه العائدية إلى مستويات أعلى بكثير من الواقع الحالي. وكما أوضحنا، فإن بلوغ عائدية مرتفعة ليس أمراً مستحيلاً ولا ضرباً من الخيال، فقد وصلت هذه النسبة في فترات سابقة من تاريخنا إلى 40% أو أكثر، وبالتالي فإن الحديث عن 50% أو حتى 100% عائدية ليس مستبعداً من الناحية النظرية. والمفتاح لتحقيق ذلك يكمن في نوعية الاستثمارات التي نختار توجيه الموارد إليها. لقد اعتمد الاقتصاد السوري سابقاً على الاستثمار بالميزات النسبية وأهمل الميزات المطلقة الموجودة في الكثير من القطاعات والتي تعتبر مفتاحاً لرفع العائدية. واليوم لا يوجد سبيل سوى عكس حركة الاقتصاد السوري، كما لا يوجد مبرر لمن يمنع حدوث ذلك.
وهذا يتطلب تغييراً جوهرياً في النموذج الاقتصادي المتبع. عوضاً عن السعي وراء استثمارات سهلة منخفضة العائد (كإنشاء مولات أو بيع عقارات لمستثمرين أجانب بعائد محدود)، ينبغي توجيه الموارد نحو بناء صناعات واستثمارات محلية تستند إلى ما نتميز به فعلاً ولا يمكن للآخرين منافستنا عليه بسهولة. وبذلك نستطيع إنتاج سلع نهائية تباع بأضعاف سعر موادها الخام، فنحقق عائدية مرتفعة ونخلق فرص عمل ذات قيمة مضافة عالية في الداخل. وبطبيعة الحال، تحقيق هذا التحول لن يكون ممكناً ما لم تتوفر البيئة الاقتصادية الملائمة التي تعني أولاً القضاء على معوّقات الماضي، أي النهب والفساد، لضمان أن الموارد المستثمرة ستذهب حقيقةً لبناء هذه المشاريع المنتجة وليس لجيوب المنتفعين. كما تتطلب تبني سياسات رسمية داعمة: تسهيلات حقيقية وفعلية للمشاريع الصناعية والزراعية عالية القيمة، وحماية إنتاجها في وجه الإغراق الخارجي، وتأهيل الكوادر المحلية اللازمة لتشغيل هذه القطاعات الجديدة.
أي رؤية اقتصادية وطنية شاملة يجب أن تضع نصب عينها تمويل وتشجيع المشاريع ذات العائدية المرتفعة، حتى لو بدت صعبة أو تحتاج لوقت أطول لجني الثمار، لأن مكاسبها الاستراتيجية على المدى المتوسط والطويل لا تقدر بثمن.
لكن الأهم من هذا كله، أن تبني استراتيجية الاستثمار في الميزات المطلقة لا يجب أن يعني التخلي عن الاستثمارات الضرورية التي قد لا يكون عائدها عالياً لكنها ضرورية لانطلاق الاقتصاد وتأمين الأساسيات للشعب السوري، وبشكلٍ أساسي الاستثمار في قطاعات الإنتاج ذات الأولوية كالاستثمار في البنى التحتية والصناعة والزراعة.
اقتصاد يعتمد على تصدير خاماته فقط وعرض أصوله للاستثمار الخارجي سيبقى تابعاً وضعيف العائد، بينما اقتصاد يقوم على تصنيع ميزاته المطلقة محلياً سيصبح أكثر منعة وأقل تعرضاً للتقلبات السياسية والاقتصادية.
آن الأوان للانتقال من اجترار نماذج اقتصادية مجربة أدت إلى نتائج مخيبة، نحو نهج جديد يعيد بناء الاقتصاد السوري مستفيداً من الثروات الوطنية وموجه لخدمة السوريين وعلى وجه الخصوص أصحاب الأجور الذين دفعوا ضريبة الحرب نهباً وتهجيراً وانخفاضاَ في مستوى معيشتهم.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1237