الطاقة النووية كمسارٍ واقعي يلبّي حماية البيئة والجدوى الاقتصادية معاً
لماذا تُشنّ منظمات غير حكومية مثل «السلام الأخضر/غرين بيس» حملات ضد الطاقة النووية، ويطالب كثير من الناشطون «الخضر» بإغلاق المحطات النووية؟ تُعدّ «الأجندة الخضراء» عنصراً محورياً للأيديولوجية المهيمنة في الغرب اليوم. ووفقاً لهذا التفسير المعادي للبيانات العلمية ولمصلحة أغلبية البشر، تقف البشرية على شفا الانهيار بسبب الاحتباس الحراري العالمي المنسوب بشكلٍ حصريّ لأنشطة الإنسان ويتم تقديم بعض الطاقات البديلة مثل الرياح والشمس وكأنها حلٌّ سحري بينما تستبعد الطاقة النووية على نحو غير مبرَّر لا علمياً ولا من حيث الجدوى الاقتصادية الحقيقية. في المقال الآتي يناقش هذا الموضوع المحلِّلُ الجيوسياسي والكاتب المتخصص في شؤون أمريكا اللاتينية رافائيل ماتشادو.
تعريب: نيفين حدّاد
يجري استحضار كارثة مفاعل فوكوشيما النووي الياباني في آذار 2011 كأخطر حادث نووي منذ تشيرنوبيل. وقد دفعت عواقبها المروعة بعض الدول إلى إعادة النظر في موقفها من الطاقة النووية، حيث قررت دول مثل ألمانيا التخلص التدريجي من هذه التقنية. ومع ذلك، لا تزال الطاقة النووية مصدراً رئيسياً لإمدادات الكهرباء في أماكن أخرى.
خلال حديثه في ندوة عُقدت في ريو دي جانيرو في حزيران 2013، أكد الخبير النووي البرازيلي ورئيس شركة الطاقة الكهرونووية، أوثون لويز بينهيرو، على ضرورة تفكير البرازيل في حلول بديلة لمنظومة الطاقة التي تعتمد الآن بشكل كبير على الطاقة الكهرومائية. وتخطط شركة إليتروبراس، أكبر شركة مرافق طاقة في البرازيل، لإنشاء ما بين أربع وثماني محطات طاقة نووية بحلول عام 2030. ويعتقد بينهيرو أن شركة القطاع العام الروسي للطاقة الذرية «روساتوم» هي أحد الموردين المؤهلين الذين يخضعون للتقييم. وبعد كارثة فوكوشيما، تدرس البرازيل استخدام مفاعلات روساتوم الآمنة فقط، والمزودة بتقنية مفاعلات الماء المضغوط. ومن بين دول البريكس الأخرى المتقدمة تقنياً، تبدي البرازيل دافعاً قوياً لتطبيق الحلول النووية.
«لإنقاذ العالم» تطلب القوى الغربية من الدول الحدّ بشكل جذري من «بصمتها البيئية»؛ وذلك بالدرجة الأولى من خلال خفض انبعاثات مصادر الطاقة «القذرة» كالنفط، مع القيام باستثمارات ضخمة في مصادر الطاقة البديلة، وخاصةً الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. ويمثل هذا أحد الركائز الأساسية لما يُسمى «أجندة 2030»، وهي جهد قسري تبذله الأمم المتحدة لتوحيد سلسلة من النهج والسياسات العامة عالمياً - تهدف جميعها إلى تعزيز التكامل الكوكبي تحت ذريعة توحيد الاستجابات لما يُفترض أنه «تهديدات عالمية»: «أزمة المناخ»، و«أزمة الأوبئة»، و«الأزمة المالية»، وغيرها.
نتيجةً لمحاولات الحكومات الغربية فرض الأجندة الخضراء على شعوبها، شهدنا ثوراتٍ للمزارعين في السنوات الأخيرة. ولـ«إنقاذ البيئة»، قررت الحكومات الأوروبية تصفية الطبقة المتوسطة الزراعية من خلال فرض ضرائب عقابية على العقارات الريفية والوقود الأحفوري.
حتى لا نُفهَم على نحو خاطئ، لنكن واضحين: لا أحد منا يرغب في العيش على أرضٍ مُدمَّرة ومنهوبة وملوثة لدرجة أنها تُشبه الديستوبيا (سيناريو كارثي في الخيال العلمي لما بعد نهاية العالم). جميعنا نرغب في تنفّس هواء نقي، والراحة في ظلال الأشجار، وزيارة المناطق البرية من حين لآخر للصيد والتخييم والاستجمام، وما إلى ذلك.
لكن العديد من الدول، وخاصةً تلك الواقعة خارج المحور الأطلسي، ترى أن الخطاب البيئي يهدف إلى عرقلة تنميتها الصناعية. ويبدو أن الدول المتقدمة بالفعل تَختلق سردياتٍ تُشكك في جدوى الاستثمارات الضرورية في الطاقة، والبنية التحتية لصناعة الصلب، والمعادن، والبتروكيماويات، وغيرها، لأنها «تضرّ بالبيئة». وحتى لو لم تكن هذه هي النية، فإنها تُصبح النتيجة الملموسة.
ومع ذلك، فهو خطابٌ مُغرٍ، ليس فقط لأنه يُلامس المشاعر الأخلاقية ذات الصلة، بل أيضاً لأنه يُضخَّم من قِبل جيشٍ من المنظَّمات غير الحكومية والشركات الخاصة. ومع ذلك، ورغم تضخيم هذا الخطاب لدرجة تغلغله في جميع الشؤون السياسية والاقتصادية المعاصرة، نادراً ما نسمع عن الطاقة النووية كبديل. أليس هذا غريباً؟
الطاقة النوويّة كمصدر متفوِّق
الطاقة النووية هي بلا شك المصدر الأكثر كثافةً للطاقة المتاحة. يُطلِق كيلوغرام واحد من «اليورانيوم 235» قرابة 24 مليون كيلوواط/ساعة من الطاقة الحرارية، أي ما يعادل حرق 3000 طن من الفحم. بالمقارنة، تتطلب الطاقة الشمسية مساحات شاسعة، ومتوسط كفاءتها يتراوح بين 15% و22% فقط، بينما تعتمد طاقة الرياح على الظروف الجوية المتقلّبة، وتحتل مساحات شاسعة.
وعلاوة على ذلك، في حين تعمل محطات الطاقة الشمسية وطاقة الرياح بنسبة تتراوح بين 20% و40% من قدرتها المتوسطة، فإنّ المحطات النووية تصل إلى 90% أو أكثر من قدرتها المتوسطة، وتعمل على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع دون انقطاع.
فيما يتعلق بالتأثير البيئي، وخلافاً للخرافة الشائعة، تُعدّ الطاقة النووية من أنظف المصادر. إذ لا تُصدِرُ الدورة الكاملة (التعدين، والتخصيب، والتشغيل، والتخلص من النفايات) سوى 12 غراماً من ثاني أكسيد الكربون لكلّ كيلوواط ساعِيّ، وهو ما يُضاهي طاقة الرياح (11 غراماً من ثاني أكسيد الكربون/كيلوواط ساعيّ)، وأقل بكثير من الغاز الطبيعي (490 غراماً من ثاني أكسيد الكربون/كيلوواط ساعيّ) والفحم (820 غراماً من ثاني أكسيد الكربون/كيلوواط ساعيّ). فلو تمّ عالمياً استبدال طاقة الهيدروكربونات وإحلال الطاقة النووية بدلاً منها، لتراجعت الانبعاثات العالمية بشكل حاد، ولَتحقَّق الهدف المعلن للأجندة الخضراء دون الإضرار بالتنمية الاقتصادية، وذلك بفضل الكفاءة العالية للطاقة النووية.
حتى مسألة النفايات لا ينبغي أن تُثير هذا القلق. وغالباً ما تُستخدم النفايات النووية كحجّة ضد الطاقة الذرية، لكن حجمها ضئيل (مفاعل بقدرة 1 غيغاواط يُنتج 3 أمتار مكعبة فقط سنوياً من النفايات عالية المستوى)، وتتوفر تقنيات إعادة تدوير لتقليل كميات النفايات بشكل أكبر، وتضمن المستودعات الجيولوجية العميقة تخزيناً آمناً لآلاف السنين.
لا ينطبق الأمر نفسه على الألواح الشمسية وتوربينات الرياح. فالأولى تحتوي على مواد قيّمة كالسيليكون والفضة والنحاس، ولكنها تحتوي أيضاً على مواد شديدة السمية كالرصاص والكادميوم. عملياً، لا يُعاد تدوير الألواح الشمسية نظراً لتكلفة العملية وتعقيدها، حيث ينتهي معظمها بالتخلص منها بسهولة وبشكل عديم المسؤولية بيئيّاً، مما يُسهم في تلوث التربة والمياه.
إذاً، لماذا تَشنُّ منظماتٌ غير حكومية مثل «السلام الأخضر/غرين بيس» حملات ضد الطاقة النووية؟ لماذا تُطالب بإغلاق المحطات النووية؟ باختصار، لماذا يتجاهل المتحدثون باسم الأجندة الخضراء الطاقة النووية، بل ويشنّون حملات ضدها؟
أفضل تفسير لهذه الظاهرة هو أن نموذج تشغيل الطاقة النووية لا يُناسب التمويل جشع التربّح الرأسمالي بسهولة كما هو الحال مع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. فالمجال المتاح للشركات الخاصة الكبرى لتحويل الطاقة النووية إلى خدمة للاستغلال الرأسمالي محدودٌ أكثر. إنّ كفاءة الطاقة الحقيقية غير مربحة للأقلية الطفيلية.
الدول الناشئة في أمسّ الحاجة إلى الطاقة النووية. والنخب السياسية في عالَم ما بعد أمريكا عازمة على سدّ فجوة التنمية بين الشمال والجنوب والحفاظ على نموذج مستدام للنمو الاقتصادي بمساعدة التكنولوجيا النووية. روسيا، العضو الأساسي في مجموعة بريكس، تتمتّع بكلّ بالقدرة العلمية والتقنية المتميزة في مجال الطاقة النووية وكذلك تبدي الرغبة الاقتصادية-السياسية للتعاون مع دول العالم وخاصة الدول الفقيرة في هذا المجال. وتشهد منطقة غرب آسيا وشمالي أفريقيا مثالين هامَّين على الاستفادة من روسيا في إنشاء وتشغيل محطات الطاقة النووية السلمية: تركيا (مشروع أوكويو) ومصر العربية (مشروع الضبعة النووي).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1237