الأوهام المليارية: لن يستثمر عاقل في حقل ألغام
استضاف قصر الشعب في دمشق، يوم الخميس الماضي 24 تموز 2025، فعاليات منتدى الاستثمار السعودي السوري بحضور رسمي رفيع المستوى من الجانبين. ويُعد هذا المنتدى الأول من نوعه بين البلدين منذ سنوات طويلة، مما أكسبه أهمية خاصة. وفي ختام المنتدى، أعلنت الحكومة السورية توقيع مجموعة من الاتفاقيات ومذكرات التفاهم (نحو 47 اتفاقية ومذكرة) في مختلف القطاعات، بقيمة إجمالية تُقدَّر بنحو 6.4 مليارات دولار أمريكي. بطبيعة الحال، أثار هذا الرقم الضخم اهتماماً واسعاً، لكنه في الوقت نفسه ترك أسئلة مفتوحة حول طبيعة تلك الاتفاقيات، إذ لم يتضح بعد بشكل دقيق ما هي حصة الاتفاقيات النهائية المبرمة فعلياً ضمن هذا الرقم، وما هي حصة مذكرات التفاهم المبدئية التي قد يتم التفاوض عليها لاحقاً أو ربما لا يتم تفعيلها على الإطلاق. وبالتالي فإن المحصلة المُعلَن عنها، رغم ضخامتها على الورق، تستدعي قراءة متأنية لتمييز الالتزامات الحقيقية عن مجرد النوايا المعلنة.
في ظل الواقع الداخلي شديد الهشاشة في سورية، ومع استمرار حالة القلق العام لدى السوريين حيال أوضاع البلاد الراهنة، حيث لم تحل بعد أي من المهام الوطنية الكبرى التي تحتاجها البلاد بشدة للمضي قدماً، وعلى رأسها تأمين مقومات توحيد سورية وإنجاز التوافق الوطني بين السوريين عبر حوار حقيقي، جاء الإعلان عن الاستثمارات السعودية ليشكل بصيص أمل لدى كثير من السوريين، حيث نظر العديد منهم إلى تلك الاستثمارات الموعودة بوصفها باباً للأمل في هذا الظرف العصيب، وقد تعزز هذا الشعور عبر تغطيات وتصريحات من شخصيات سياسية وإعلامية سارعت إلى التهليل لهذه الاستثمارات باعتبارها «طاقة الفرج» التي طال انتظارها.
مع ذلك، فإن هذه التطورات تتطلب التروي والتحليل. وبغض النظر عن كون وجود مستثمرين راغبين بالعمل بسورية هو أمر يبعث على التفاؤل لأي مواطن سوري يتوق إلى رؤية بلده تخرج من أزمتها، سنحاول في هذه المادة أن نسلط الضوء على بعض الملاحظات الأولية حول منتدى الاستثمار السعودي السوري وما دار في فلكه، بالإضافة إلى ملاحظات حول السياسة الاستثمارية في سورية عموماً، والمسار المطلوب للتوصل إلى استثمارات حقيقية وذات أولوية في ظل الوضع الراهن.
منتدى الاستثمار السعودي السوري: أرقام كبيرة وتفاصيل غائبة
يمكن تسجيل الكثير من الملاحظات حول مجريات منتدى الاستثمار السعودي السوري ونتائجه الفعلية. أولى هذه الملاحظات تتعلق بالرقم المعلن للاتفاقيات، فكما أشير في المقدمة، قيمة 6.4 مليارات دولار التي جرى تداولها تشمل حزمة واسعة من مذكرات التفاهم إلى جانب الاتفاقيات النهائية. هذا يعني أن جزءاً كبيراً من الرقم يمكن إدراجه في إطار النيات المعلنة، والتي لا يمكن الجزم بتحولها إلى استثمارات فعلية ما لم تتحول مذكرات التفاهم تلك إلى عقود ملزمة على الأرض.
واعتدنا في مثل هذه المنتديات والقمم الاقتصادية، سواء في سورية أو خارجها، على تضخيم الأرقام عبر إدخال المشاريع المستقبلية والافتراضية ضمن المحصلة، وهو ما ينطبق هنا، إذ قد يكون جزء كبير من الـ6.4 مليار دولار مجرد مشاريع محتملة قيد البحث، وربما لن تخرج إلى حيز التنفيذ ما لم تتوفر الظروف والمعطيات المناسبة لذلك.
من المعلومات المتداولة على هامش المنتدى، برزت تقديرات تُشير إلى أن القيمة الفعلية للاستثمارات المؤكدة التي تم الاتفاق عليها وتوقيع عقود ملزمة بشأنها لا تتجاوز 2.9 مليار دولار تقريباً من أصل الرقم الكلي المعلن. سواء صحّت هذه التقديرات أم لا، فإن غياب التفاصيل الرسمية الشفافة حول ماهية الاتفاقيات يُبقي الباب مفتوحاً للتأويل. فلم تصدر عن الجهات الرسمية السورية أي بيانات تفصيلية تكشف عن نوعية المشاريع التي تتضمنها تلك الاتفاقيات ومذكرات التفاهم، ولا طبيعة العقود وآليات التعاقد التي ستُعتمد. على سبيل المثال: هل هي مشاريع وفق صيغة الشراكة بين القطاع العام والخاص PPP؟ وإذا كانت كذلك ما هي نسب تقاسم العائدات بين الجانب السوري والمستثمرين في حال كانت المشاريع ستدار بأسلوب تشاركي. يضاف إلى ذلك عدم توضيح الجداول الزمنية المتوقعة لتنفيذ وإنجاز هذه المشاريع المعلنة، فلا أحد يعلم على وجه الدقة متى يفترض أن يبدأ العمل فيها أو متى ستؤتي ثمارها.
ومن الجدير بالذكر أن حتى الجزء الذي يُعتقد أنه مؤكد وموقع من الاستثمارات (مثل نحو الـ2.9 مليار دولار المشار إليها سابقاً) لن يكون عبارة عن تدفقات نقدية مباشرة دفعة واحدة، بل على الأرجح سيمتد ضخ هذه الاستثمارات عبر عدة سنوات تزامناً مع مراحل تنفيذ المشاريع المرتبطة بها. فوق ذلك، فإن مدى التزام المستثمرين بالمضي قدماً في تنفيذ تلك المشاريع مرتبط بتوافر البيئة المستقرة والضمانات التي تضمن استمرار العمل والعائد المتوقع. وهذه الشروط بدورها مرهونة بتطورات الوضع السياسي والأمني في البلاد خلال المرحلة المقبلة، وهو ما يضيف مزيداً من الضبابية حول إمكانية تحويل الوعود الاستثمارية إلى واقع ملموس.
والغياب شبه التام للمعلومات التفصيلية يوحي بأن الهدف الأساس من المنتدى ربما كان سياسياً أكثر منه اقتصادياً مباشراً. فالإعلان عن رقم استثماري ضخم كهذا دون الكشف عن آليات التنفيذ ومراحله الزمنية يعزز الانطباع بأن البعد الإعلامي والسياسي للحدث طغى على محتواه الاقتصادي الفعلي. أرادت السلطات السورية على ما يبدو إيصال رسالة مفادها أن البلاد قد باتت مقصداً لاستثمارات خارجية كبيرة، في محاولة لبث الثقة والتفاؤل لدى الشارع السوري وإظهار نجاح سياسي. وبالمثل، فإن الجانب السعودي معنيُّ بإظهار دعمه لإعادة الاستقرار في سورية عبر إعلان الاستعداد لاستثمارات كبيرة، دون أن يعني ذلك بالضرورة ضخ الأموال كلها دفعة واحدة أو التزاماً نهائياً بالرقم المعلن كله.
الفرص الاستثمارية المعلنة وعقلية «الاستثمار من فوق»
على الجانب الآخر من المنتدى، سارعت الحكومة السورية إلى الإعلان عن طرح عدد كبير من الفرص الاستثمارية الجديدة، مما سلط الضوء على مشكلة مزمنة أخرى في المشهد الاقتصادي السوري وهي غياب الشفافية بشكلٍ كلي، فخلال فعاليات المنتدى نفسه، تحدّث مسؤولون عن عشرات الفرص المتاحة للاستثمار في محافظتي دمشق وحلب وغيرهما، وشاهدنا كيف حصل المستثمرون الحاضرون على بروشورات تفصيلية تتضمن معلومات عن تلك الفرص وشروط الاستثمار المرتبطة بها. غير أن هذه المعلومات التفصيلية بقيت حبيسة قاعات المنتدى ولم تُنشر للعامة، إذ لم تبادر أي جهة رسمية إلى نشر محتوى هذه البروشورات بشكل علني. ووجد الإعلاميون والمهتمون بالشأن الاقتصادي أنفسهم مضطرين للاعتماد على ما تسرب من معلومات شحيحة عبر بعض من حضروا المنتدى، مما خلق حالة من التخبط في فهم ما تم عرضه فعلياً على المستثمرين.
من خلال تلك التسريبات المحدودة التي خرجت للعلن، ظهرت مفارقات لافتة تستدعي النقاش. على سبيل المثال، تبيّن أن الحكومة عرضت للاستثمار السياحي مساحة شاسعة في قلب دمشق تتمحور حول محيط ساحة الأمويين، تضم مواقع شديدة الحساسية والأهمية من بينها مبنى هيئة الأركان ومبنى وزارة الدفاع (اللذان تعرضا لقصف جوي من جانب العدو الإسرائيلي) ونادي الضباط ومبنى الإذاعة والتلفزيون. جرى طرح هذه المواقع، التي تشكل جزءاً من ذاكرة الدولة ومن النسيج العمراني الحساس للعاصمة، كمشاريع استثمارية سياحية ضخمة تتضمن إقامة فنادق ومراكز تجارية وترفيهية. وكان من المفترض أن يسبق ذلك نقاش عام واسع ودراسات معمقة حول جدوى هذه المشاريع وآثارها المحتملة قبل اعتمادها. لكن هذا النقاش غاب تماماً، وحل محله طرح مبسّط للمشروع ضمن كتيب وُزع على مستثمرين مختارين في ملتقى مغلق.
ولم تقف قائمة المشاريع المطروحة عند هذا الحد، بل شملت أيضاً أفكاراً غير منسجمة مع واقع البلاد الحالي، من قبيل مشروع لإنشاء بنية تحتية لشحن السيارات الكهربائية. فهذا المشروع، رغم أهميته المستقبلية، هو رفاهية وتغريد خارج السرب في بلد يعاني سكانه حالياً من أزمات خانقة في تأمين الكهرباء الأساسية والمحروقات، وإدراج فرصة كهذه ضمن الأولويات الاستثمارية هو قفز فوق معاناة السوريين اليومية التي تحتاج إلى حل ضروريات الحياة قبل الانتقال إلى مثل هذه المشاريع.
وعدم كشف تفاصيل هذه الفرص الاستثمارية أمام الجمهور السوري يشير مرة أخرى إلى أن العقلية الاستثمارية السائدة لدى الجهات الرسمية ما زالت تتبع نهج «الاستثمار من فوق»، حيث تتخذ قرارات كبرى تتعلق باستثمار موارد البلاد وأصولها دون أي مشاركة شعبية أو رقابة مجتمعية تضمن أن هذه المشاريع تخدم المصلحة العامة فعلياً.
عرض مواقع حيوية وحساسة للاستثمار خلف أبواب مغلقة، وحرمان المواطنين من معرفة ما يجري التخطيط له في مدنهم، يطرح تساؤلات جدية حول مدى مراعاة هذه الطروحات لمطالب الشعب السوري وحاجاته، كما أنه يعزز الشكوك في وجود فساد أو صفقات خاصة تبرم مع مستثمرين معينين بعيداً عن العلن، في غياب المنافسة الاقتصادية التي يتغنى بها بعض المسؤولين كثيراً.
تتخذ قرارات الاستثمار في القمة، وتُحجب المعلومات عن الشعب السوري، وكأن الاستثمار شأن خاص مغلق على دائرة ضيقة من المعنيين. وهذا النهج لا يقوض ثقة المواطنين بجدوى تلك المشاريع فحسب، بل وسيؤثر سلباً حتى على مناخ الاستثمار نفسه.
الاستثمار الحالي: حوافز بلا جدوى وأولويات مفقودة
من خلال تأمل النهج العام الذي يحكم عملية الاستثمار في سورية حالياً، يبدو جلياً أن هناك رغبة جامحة لدى السلطات في جذب الاستثمارات الخارجية بأي طريقة ممكنة. إلا أن هذه الرغبة تترجم عملياً بأسلوب من أسوأ ما يكون، وهو تقديم المزيد والمزيد من الحوافز والتسهيلات للمستثمرين المحتملين، وصياغة الفرص الاستثمارية من منظور إرضاء المستثمر الأجنبي أولاً وقبل كل شيء، بدلاً من الانطلاق من حاجات الاقتصاد السوري الفعلية.
ويتم ذلك في ظل تجاهل أو إرجاء معالجة المشكلات الحقيقية التي تعيق الاستثمار في البلاد أصلاً. أولى هذه المشكلات وأكبرها هي غياب الاستقرار الأمني والسياسي وضبابية مستقبل البلاد. فلا يخفى أن سورية ما زالت تعيش حالة جمود على الصعيد السياسي، ولم يتم حتى الآن الوصول إلى حل وطني شامل ينهي حالة الانقسام ويؤسس لمرحلة جديدة من الاستقرار، وعدم إنجاز مهمة توحيد البلاد فعلياً وعدم تحقيق الاستقرار عبر حوار حقيقي يضم جميع السوريين، يعني ببساطة أن أي مستثمر عاقل سيظل متوجساً من ضخ أمواله في بيئة غير مستقرة. إذ كيف يمكن الاطمئنان إلى سلامة استثمار طويل الأجل في بلد لا تزال أجزاؤه مفككة أو في حالة توتر، ولا تزال التسوية السياسية الشاملة فيه غائبة؟ سيضع المستثمر المخاطر السياسية والأمنية في المقام الأول عند اتخاذ قرار الاستثمار، مهما بلغت جاذبية القوانين والحوافز المقدمة له على الورق.
والمشكلة الأخرى تتعلق بأولويات الاستثمار نفسها. فحتى لو افترضنا جدلاً أنه تم تجاوز العقبة السياسية وأصبحت البيئة الداخلية أكثر استقراراً وجاذبية، يبقى السؤال: ما طبيعة المشاريع والقطاعات التي ينبغي أن تتصدر قائمة الأولويات في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ سورية؟ هل من المنطقي أن تكون المنتجعات السياحية والفنادق الفاخرة والمولات التجارية ومشاريع الترفيه وشحن السيارات الكهربائية في صدارة المشهد الاستثماري اليوم، بينما يعاني الاقتصاد السوري من انكماش حاد وتراجع في القطاعات الإنتاجية الأساسية؟ أليس الأجدر توجيه الرساميل نحو إعادة إحياء الزراعة والصناعة، وإصلاح منظومات الطاقة والنقل، وبناء أو ترميم البنية التحتية الحيوية التي تخدم أغلبية السكان وتعزز الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي للبلد؟
التركيز على مشاريع عقارية وخدمية تدر أرباحاً سريعة للمستثمر دون أن تساهم في بناء قاعدة إنتاجية متينة، يعيد إلى الأذهان سياسات السلطة السابقة التي أثبتت فشلها في خلق نمو حقيقي ومستدام. فمثل هذه المشاريع قد تملأ جيوب أصحابها بالربح، لكنها لا تخلق فرص عمل كافية ولا تحسن مستوى معيشة المواطن العادي، بل يمكن أن تزيد الهوة الطبقية عبر تركيز الثروة في قطاعات ضيقة.
ومنذ إصدار التعديلات الجديدة على قانون الاستثمار يوم 9 تموز الماضي، اتضح أن العقلية الاستثمارية للسلطات الحالية لا تعدو كونها تكراراً لنهج السياسات الاقتصادية السابقة، نهج لا يأخذ بعين الاعتبار سوى مصلحة المستثمر وقطاعات الربح السريع. حيث جاء القانون المعدل محملاً بالمزيد من الإعفاءات الضريبية والتسهيلات الإجرائية وضمانات تحويل الأرباح إلى الخارج، دون أن يتضمن رؤية واضحة لكيفية توجيه الاستثمارات نحو القطاعات الأكثر مساساً بحياة المواطنين.
كما قلنا سابقاً، من السهل جداً على أي دولة أن تعرض حزمة مذهلة من حوافز الاستثمار والإعفاءات للمستثمرين، لكن السؤال الجوهري هو: هل يجعلها ذلك تلقائياً بيئة جاذبة للاستثمار؟ التجربة تثبت أن الجواب هو قطعاً لا. إن جذب الاستثمار، وخاصة الاستثمار المنتج الطويل الأجل، يتطلب قبل كل شيء توفير الاستقرار الداخلي وإقامة سوق وطنية موحدة تتكامل فيها جميع المناطق، وهذه مهام لم تُنجز بعد في سورية. وهي مهام سياسية بامتياز لا يغني عنها أي قرار اقتصادي أو مرسوم. فلا القوانين وحدها، ولا الوعود بتسهيلات، يمكن أن تقنع رأس المال الجاد بالمجيء والعمل في بلد لم يستعد بعد عافيته السياسية والأمنية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1236