كيف أصبحت «ورشة تجميع» العالم منتجة للصناعات عالية التقنية؟
لم تعد الصين هي «ورشة تجميع» العالم كما كان يحلو للاقتصاديين الغربيين تسميتها، فقد فقدت ميزتها الأساسية ضمن هذا السياق: العمالة زهيدة الثمن. ينطبق هذا بشكل خاص على الصناعات التكنولوجيّة في الصين، والتي تحتاج إلى الكثير من العوامل لنجاحها. الصين اليوم قادرة على تزويد هذه الصناعات بما تحتاجه تماماً، مثل: رأس المال البشري المدرّب، والبنية التحتيّة بمعناها الواسع، التي تسمح بتطوير هذه الصناعة، والسياسات الحكومية التي تعطي الفرصة لهذا التطوّر ليأخذ مداه، دون أن تسمح له بالتحوّل إلى الأمولة، كما حدث مع الشركات الغربية. ربّما لهذا فصناعة السيارات الكهربائية، وهي الأمر الذي بات من القطاعات الأكثر تنافسية حول العالم اليوم، تنمو في الصين بشكل مذهل مقارنة بنموّها في الاتحاد الأوروبي واليابان كمثال. إليكم تالياً أبرز ما جاء في مقال بحثي شديد الأهمية أعدّه باحثٌ في جامعة ديوك الأمريكية عن هذا الموضوع:
ترجمة: أوديت الحسين
شهدت صناعة السيارات الكهربائية في الصين طفرة غير مسبوقة في السنوات الأخيرة، مما يمثل تحولاً كبيراً في مشهد السيارات العالمي. ويمكن أن يعزى هذا الارتفاع إلى حد كبير إلى استراتيجية متعددة الأوجه تشمل الدعم الحكومي، والابتكار التكنولوجي، وأساليب توسيع السوق.
كان أحد العوامل الحاسمة في صعود صناعة السيارات الكهربائية في الصين هو الدعم القوي من الحكومة. لعبت صناديق التوجيه الحكومية المحلية دوراً محورياً في توفير العمود الفقري المالي لتطوير البنية التحتية، وهو أمر بالغ الأهمية لرعاية النظام البيئي للمركبات الكهربائية. امتدت استراتيجية الحكومة إلى ما هو أبعد من مجرد المساعدات المالية، فقد شمل تشكيل مجموعات صناعية، وخفض تكاليف المعاملات، وخلق بيئة مواتية لنمو الصناعة.
وتضمنت سياسة تشجيع مبيعات السيارات الكهربائية- لتوسيع حجم السوق- إدخال المنافسة لتحفيز الشركات المحلية. كان دخول تسلا إلى السوق الصينية، كما هو موضح في التحليل الأصلي، بمثابة «تأثير سمك السلور»، مما أدّى إلى تكثيف المنافسة المحلية والابتكار. وتؤكد هذه الخطوة الاستراتيجية براعة الحكومة في استخدام المنافسة الخارجية لتحفيز النمو الداخلي.
وقد وفر غزو الصين لتكنولوجيا الاتصالات، وصناعات رأس المال الاستثماري الأساس الضروري لقطاع السيارات الكهربائية المزدهر. ويعني تكامل هذه الصناعات، أن قطاع السيارات الكهربائية يمكنه الاستفادة من التقدم التكنولوجي والتمويل الكبير. وقد سهلت هذه العلاقة المنظمة بشكل تكاملي بين القطاعات المختلفة، النمو والتطور السريع لصناعة السيارات الكهربائية في الصين.
ركزت السياسة الصناعية للحكومة على تعزيز وجود العناصر والبنية التحتية الضرورية لصناعة السيارات الكهربائية. وأدى توسيع حجم السوق، وإنشاء التجمعات الصناعية، إلى منافسة شديدة، وتعزيز الابتكار والنمو. وتجسد BYD وHuawei أمثلة ممتازة على هذا النهج الاستراتيجي. قامت شركة BYD بتطوير قدرات تصنيع شاملة للمكونات عالية التكلفة، مثل: البطاريات والمحركات وإلكترونيات السيارات. وفي المقابل، استفادت هواوي من براعتها في مجال الاتصالات والتكنولوجيا، ودمجتها بشكل فعال في قطاع السيارات الكهربائية.
في مواجهة التحولات الاقتصادية العالمية، وخاصة الاتجاه نحو تراجع العولمة، تكيفت صناعة السيارات الكهربائية في الصين، من خلال التركيز على كفاءة النشاط الاقتصادي التنظيمي. وكان هذا التحول- من الاعتماد على كفاءة تخصيص الموارد، إلى نموذج أكثر اكتفاءً ذاتياً ومتكاملاً رأسياً- أمراً حاسماً في تطور الصناعة. وقد أدى ظهور المخاوف بشأن «الفصل» و«إزالة المخاطر» في التجارة العالمية إلى لزوم اللجوء إلى هذا النهج التّكيفي. وقد أثبت التكامل الرأسي «جعل المجمعات مكتفية ذاتياً لأقصى حد، عبر دمج وتكامل القطاعات بعضها مع بعض وجمعها في أماكن قريبة» بأنّه شديد الأهمية، خاصة إذا ما قورن بتجربة اليابان التي تعاني من التكامل الأفقي، ومن التكاليف المرتفعة جداً لجمع ما يلزم للصناعة من الخارج.
التعديل وترك الماركات الشهيرة
في حين أن نمو صناعة السيارات الكهربائية في الصين أمر يستحق الثناء، إلا أنه لا يخلو من التحديات. كانت هناك مشاكل كثيرة في السلسلة الصناعية في ذلك الوقت. بدأ إنتاج بطاريات الطاقة بالتركيز على الشركات الرائدة، حيث تستحوذ الشركتان الرائدتان CATL وBYD على 60% من حصة السوق، كما أن منتجاتهما قليلة المعروض، إلا أن عدداً كبيراً من الشركات المصنعة الصغيرة والمتوسطة الحجم، تجد صعوبة في استيعاب طاقتها الإنتاجية، بسبب التكنولوجيا المتخلفة. في مجال التحكم الإلكتروني IGBT، المكون الأساسي الذي يمثل 40٪ من التكلفة، وله متطلبات عالية جدًا على مختلف المؤشرات، لا يزال الاعتماد بشكل كبير على الواردات. على الرغم من أن الشركات المحلية قد بدأت الإنتاج، إلا أنها لا تزال في طور الإنتاج المبدئي، والتكرار من حيث السلامة والموثوقية والمتانة، ضمن مرحلة اللحاق بالركب. إنّ اعتماد الصناعة على التقنيات الحيوية من الخارج يشكل مخاطر في سياق ديناميكيات سلسلة التوريد العالمية.
تأثر نمو سوق السيارات الكهربائية الصينية بشكل كبير بتغيير سلوكيات المستهلك وتفضيلاته. ومع تزايد الوعي البيئي وسهولة الوصول إلى التكنولوجيا، يميل المستهلكون أكثر إلى اختيار السيارات الكهربائية بدلاً من السيارات التقليدية. كما لعبت الإعانات والحوافز الحكومية، مثل: الإعفاءات الضريبية، ولوحات الترخيص الخضراء للمركبات الكهربائية، دوراً حاسماً في جعل المركبات الكهربائية أكثر جاذبية للمستهلكين.
لم تتطور صناعة السيارات الكهربائية في الصين بمعزل عن غيرها. وقد تميز نموها بالتعاون الدولي الكبير والمنافسة. إن دخول لاعبين عالميين إلى السوق الصينية لم يحفز المنافسة فحسب، بل أدى أيضاً إلى نقل التكنولوجيا والابتكار. وبالمثل، يتطلع مصنعو السيارات الكهربائية الصينيون بشكل متزايد إلى الخارج، ويعملون على توسيع وجودهم في الأسواق الدولية، والمشاركة في سلاسل التوريد العالمية.
كان البحث والتطوير «R&D» في قلب نمو صناعة السيارات الكهربائية في الصين. استثمرت شركات، مثل: NIO وXpeng وBYD بشكل كبير في البحث والتطوير في تقنيات المركبات الكهربائية المتقدمة، مثل: البطاريات، وأنظمة الإدارة، وميزات القيادة الذاتية، وتحسين كفاءة الطاقة. وكانت هذه التطورات التكنولوجية حاسمة في وضع السيارات الكهربائية الصينية كبدائل تنافسية في السوق العالمية.
لقد أثر التزام الحكومة الصينية بالتنمية المستدامة بشكل كبير على مسار صناعة السيارات الكهربائية. وكانت السياسات الرامية إلى الحد من انبعاثات الكربون والتخفيف من تغير المناخ قوة دافعة وراء الترويج للمركبات الكهربائية. يبدو مستقبل صناعة السيارات الكهربائية في الصين واعداً، مع توقع استمرار النمو والتوجّه إلى السوق المحليّة، مع زيادة القدرات الشرائية للصينيين بشكل متزايد. ومع تقدم التكنولوجيا وانخفاض تكاليف الإنتاج، من المرجح أن تصبح السيارات الكهربائية ميسورة التكلفة ومتاحة لقاعدة أوسع من المستهلكين.
إنّ السبب وراء تفوق الصين على ألمانيا واليابان في تطوير السيارات الكهربائية، هو أن صناعة المعلومات والاتصالات، وصناعة رأس المال الاستثماري المرتبطة بها بشكل وثيق، قد اكتسبت الزخم منذ التسعينيات، وحققت تطوراً كبيراً. تعتبر السيارات الكهربائية صناعة عالية المخاطر، تعمل على تطوير وإنتاج تقنيات. وجوهرها هو الذكاء المدعوم بتكنولوجيا المعلومات والاتصالات. ولو لم تبدأ الصين في تطوير صناعة المعلومات والاتصالات ورأس المال الاستثماري في التسعينيات، لما كانت هناك تطورات كبيرة لاحقة في الإنترنت الصناعي، والبيانات الضخمة، والحوسبة السحابية، والذكاء الاصطناعي. الأمر الآخر شديد الأهمية هو الدعم الحكومي الذي يدفع الشركات للصناعات عالية المخاطر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1152