النموذج الصيني في مواجهة العقوبات الأمريكية.. ورد كيد الغربيين في نحورهم

النموذج الصيني في مواجهة العقوبات الأمريكية.. ورد كيد الغربيين في نحورهم

بدا ملفتاً مؤخراً كيف انكبت وسائل الإعلام الغربية للإعراب عن أسفها إزاء الاختراق الجديد والكبير الذي أنجزته الصين في تصنيع الرقاقات الإلكترونية الداخلة في صناعات الكمبيوتر، حيث حققت قفزات في الإنتاج كان يُعتقد أنها مستحيلة بسبب العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وصممتها خصيصاً لمحاولة خنق التقدم الصيني.

ناقش تقريرٌ صادرٌ عن شبكة «CNBC»، وحمل عنوان «الولايات المتحدة تدرس محاولة جديدة لتقييد أدوات صناعة الرقائق لشركة SMIC الصينية»، العقوبات الأمريكية المفروضة على الصين، وذكر أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن «تدرس فرض قيود جديدة تستهدف شحنات أدوات صناعة الرقائق نحو الصين، سعياً لعرقلة تقدم أكبر شركة لصناعة الرقائق في الصين SMIC، دون إبطاء تدفق الرقائق إلى الاقتصاد العالمي، وذلك وفقاً لما قاله خمسة أشخاص مطلعين على الأمر لرويترز… وقال هؤلاء إن وزارة التجارة الأمريكية، التي تشرف على سياسة التصدير، تناقش بنشاط إمكانية حظر صادرات أدوات صناعة الرقائق إلى تلك المصانع الصينية التي تصنع أشباه الموصلات المتقدمة عند عتبة 14 نانومتر وأصغر، لإحباط جهود الصين في صنع المزيد من الرقائق الحديثة».
والواقع أن الفكرة المتمثلة في أن تحاول الولايات المتحدة أن تملي على دولة أخرى ما تستطيع وما لا تستطيع أن تصنعه، وأن تحاول أن تبقي هذه الدولة خاضعة لها باعتبارها «مصنعها»، تساعد على توضيح الطبيعة الحقيقية لعبارة «النظام الدولي القائم على القواعد» التي لا ينفك المسؤولون الأمريكيون يكررونها كما لو كانت محط إجماع دولي.

الصين تقصم ظهر «النظام الدولي» بصيغته الأمريكية

رغم هذه العقوبات التي استهدفت عصب الإنتاج الصيني، لم تتمكن شركة تصنيع أشباه الموصلات الصينية SMIC من تجاوز عتبة 14 نانومتر فحسب، بل وفاجئت التوقعات كلها بإعلان نجاحها في إنتاج رقائق وصلت إلى عتبة 7 نانومتر في العام الماضي.
دفع هذا الأمر وكالة «بلومبرغ» الأمريكية للاعتراف بالإنجاز الصيني، وكتبت في مقالٍ نشر تحت عنوان «أكبر صانع رقائق في الصين يحقق اختراقاً رغماً عن القيود الأمريكية»: «من المرجح أن تكون شركة تصنيع أشباه الموصلات الصينية قد طوّرت تكنولوجيا إنتاجها بمقدار جيلين دفعة واحدة، متحدية العقوبات الأمريكية التي تهدف إلى وقف صعود أكبر شركة لصناعة الرقائق في الصين… وتقوم الشركة المصنعة التي تتخذ من شنغهاي مقراً لها الآن بشحن أشباه الموصلات التي تم بناؤها باستخدام تقنية 7 نانومتر... وهذا يتقدم كثيراً عن تقنية 14 نانومتر التي نعرفها في إنتاج شركة SMIC. علماً أنه منذ أواخر عام 2020، حظرت الولايات المتحدة البيع غير المرخص للشركة الصينية للمعدات التي يمكن استخدامها لتصنيع أشباه الموصلات من 10 نانومتر وما بعدها، ما أثار غضب بكين».

الولايات المتحدة لا تستطيع المنافسة ولا المناورة

من الواضح أن العقوبات الأمريكية لم تنجح بإحداث التأثير المطلوب، والفكرة القائلة بأن الولايات المتحدة يمكنها أن تخنق التقدم التكنولوجي الصيني من خلال حرمان الصين من المعدات والمكونات الآتية من خارج الحدود الصينية تعكس تفكير الغرب تجاه الصين باعتبارها «أقل شأناً» وغير قادرة على تحقيق تقدم كبير دون «سرقة» الملكية الفكرية أو استخدام المعدات التي «صنعها الغرب الأكثر تقدماً».
هذا بالضبط ما عملت الشركات الصينية المرموقة على دحضه وإثبات زيفه، بما في ذلك هواوي Huawei وDJI، اللتان تنتجان اليوم منتجات تتمتع بجودة لا مثيل لها في جميع أنحاء العالم.
ولكن حتى وسط هذا التقدم الأخير في تصنيع الرقائق، تحاول وسائل الإعلام الغربية الإشارة إلى أن الصين حققت هذا الإنجاز من خلال «نسخ» تكنولوجيا الآخرين، أي شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات (TSMC).
وفي هذا الصدد، حاول مقال منشور في مدونة الإعلام التكنولوجي Tom's Hardware، وحمل عنوان «رقائق الـ7 نانومتر الصينية قد تكون نسخت من تايوان»، أن «يثبت» الادعاء بالسرقة الصينية، فكتب: «وفقاً لشركة التحليل TechInsights، فإن الشركة الصينية SMIC تنتج رقائق تجاوزت عتبة 7 نانومتر، ويتم شحن مثل هذه الرقائق منذ تموز عام 2021. وبعد أن قامت شركة TechInsights بهندسة عكسية للرقاقة الصينية، قالت إن الصور الأولية تشير إلى أنها نسخة قريبة من تقنية 7 نانومتر التي تصنعها الشركة التايوانية لإنتاج الرقائق الإلكترونية، وهو اكتشاف مدعوم بالدعاوى القضائية التي رفعتها شركة TSMC التايوانية ضد شركة SMIC الصينية في الماضي مشتكية من نسخ تقنياتها. ويأتي هذا الاكتشاف في الوقت الذي تواصل فيه الصين بناء إنتاجها المحلي من أشباه الموصلات».
بطبيعة الحال، غالباً ما يتم رفع الدعاوى القضائية ضد الصين بشأن «الملكية الفكرية» في الولايات المتحدة، ويتم استخدام هذه الدعاوى كجزء من عمل أوسع بكثير يهدف لعزل واحتواء الصعود الاقتصادي والتكنولوجي للصين. ويتم ذلك باستخدام المناورات القانونية ونتائج الدعاوى القضائية لمنع الشركات الصينية من دخول الأسواق الغربية، من خلال الضغط الذي تمارسه وزارة الخارجية الأمريكية.
وجدير بالذكر أن هذه الطريقة في محاولة احتواء الصين قد نشأت أساساً من عجز الولايات المتحدة عن المنافسة مع الصين بشكلٍ مباشر. وحتى من خلال التدابير اليائسة التي تتخذها واشنطن على نحو متزايد، فمن الواضح للجميع اليوم أن الولايات المتحدة تفقد بشكلٍ متسارع ميزتها كقائد اقتصادي وصناعي، بل وحتى تكنولوجي.

لا يمكن لأحد أن يقول للصين توقفي!

قدمت مدونة الإعلام التكنولوجي Tom's Hardware في مقالٍ نشرته مؤخراً اعترافاً صريحاً بأنه في حين تواصل الولايات المتحدة محاولة خنق صناعة الرقائق في الصين، فإنها لن تنجح إلا في إبطاء ذلك مؤقتاً، وليس إيقافه. وجاء في المقال: «واصلت الصين ضخ الأموال لتطوير نظامها الخاص بأدوات وبرامج صناعة الرقائق (EDA). كما أثبتت شركة SMIC الصينية، أنه يمكنها استخدام معدات أقل تطوراً لإنشاء عقد معالجة متقدمة حتى لو كانت أقل ربحية، وهذا يفتح الفرص للشركة أمام المزيد من المبيعات. ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه الرقائق ستأتي مع قيود محددة على التصدير بسبب التحديات القانونية الأمريكية أم لا، ولكن الصين لديها الآن نظامها المزدهر الخاص بها في تصميم الرقائق».

1152-1

الاشتراكية الصينية تقود التطور التكنولوجي

بغض النظر عن مدى نجاح الضغوط الأميركية في منع المنتجات الصينية من دخول أسواق معينة في مختلف أنحاء العالم، فإن الصناعات الصينية تستمر في التقدم والتوسّع من الأسواق المحلية الصينية إلى باقي أنحاء العالم المضطر للاستفادة من القدرات الصينية الهائلة. ويمكن قول الشيء نفسه عن الصناعات المتقدمة الأخرى، بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية وصناعة الطيران المتنامية في الصين - وكلاهما مستهدف أيضاً من جانب الولايات المتحدة.
وهنا جدير بالذكر أن الصعود التكنولوجي للصين لا تقوده السياسات العامة المتبعة على مستوى الدولة فحسب، بل وكذلك العدد الهائل من الخريجين الذين تم إعدادهم في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، حيث تقود الصين العالم في هذا المجال، وتتفوق كثيراً على الولايات المتحدة أو أي دولة غربية أخرى.
في مقالٍ نشرته مجلة «فوربس» عام 2017 بعنوان «الدول التي لديها أكبر عدد من خريجي العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات»، أشارت إلى أنه «وفقاً للمنتدى الاقتصادي العالمي، أصبحت العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات كبيرة جداً في الجامعات الصينية المزدهرة. ففي عام 2013، أنهى 40% من الخريجين الصينيين درجة علمية في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، أي أكثر من ضعف الحصة في الأكاديميات الأمريكية… وأصبح خريجو العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات درعاً حيوياً في عجلة الازدهار العالمي، وليس من المستغرب أن تقود الصين الطريق. أفاد المنتدى الاقتصادي العالمي أن الصين لديها 4.7 مليون خريج حديث في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في عام 2016. وكان لدى الهند، وهي قوة أكاديمية مرموقة أخرى، 2.6 مليون خريج جديد من مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات العام الماضي، في حين كان لدى الولايات المتحدة 568 ألفاً».

2025.. عام الصين في مجال الدكتواره

بعيداً عن الكثير من درجات الدكتوراه التي تمنحها أكاديميات الغرب جزافاً في «التمكين» و«الحوكمة» و«إدارة الموارد النادرة» وغيرها من المجالات التي تنزع عن العلم طبيعته المتحيزة ولا ترتبط ارتباطاً وثيقاً في جوهر عملية إنتاج البشر لحاجاتهم وعلاقاتهم بين بعضهم البعض، يعترف مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة «جورج تاون» في واشنطن، في ورقة بحثية حديثة صدرت عام 2021 بعنوان «الصين تتفوق بسرعة في شهادات الدكتوراه في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات في الولايات المتحدة»: «استناداً إلى أنماط التسجيل الحالية، نتوقع أنه بحلول عام 2025، سيكون لدى الجامعات الصينية أكثر من 77000 خريج دكتوراه في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سنوياً، مقارنة بحوالي 40000 في الولايات المتحدة. وإذا تم استبعاد الطلاب الدوليين من الولايات المتحدة، فإن خريجي الدكتوراه الصينيين في العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات سيفوق عددهم عدد نظرائهم الأمريكيين بأكثر من ثلاثة إلى واحد».
وفيما يتعلق بنوعية التعليم العالي الصيني، لاحظت الورقة ما يلي: «تشير النتائج التي توصلنا إليها أيضاً إلى أن جودة تعليم الدكتوراه في الصين قد ارتفعت في السنوات الأخيرة، وأن الكثير من ارتفاع أعداد شهادات الدكتوراه الحالي في الصين يأتي من جامعات عالية الجودة».
وتشير الورقة إلى أن هذا بمثابة مؤشر رئيسي على القدرة التنافسية المستقبلية للصين في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات والتي تشمل صناعات التكنولوجيا الفائقة مثل صناعة الرقائق.

تقويض أساسات الدعاية الغربية حول الصين

تعمل الولايات المتحدة في ظل افتراض خاطئ مفاده أن الطريقة الوحيدة التي يمكن للصين من خلالها تطوير قدراتها في صناعة الرقائق هي باستخدام الآلات والمكونات من الشركات الغربية أو من خلال «سرقة» الملكية الفكرية. وهذه النظرة متجذرة في أجيال اعتادت على نمط التفكير والبروباغندا الغربية (وهي متسربة بالمناسبة إلى منطق تفكير الشباب في كثير من دول منطقة شرق المتوسط) والنظر إلى أن الأمم والشعوب الأخرى خارج الغرب هي بطبيعتها أقل شأناً وقدرةً وكفاءةً.
في هذا الإطار، من الواضح أن الصين استثمرت بكثافة في أهم مورد على الإطلاق، ألا وهو الموارد البشرية، فإلى جانب الكم الكبير من الموارد الطبيعية التي يمكن للصين الوصول إليها، لديها كل ما تحتاجه داخل حدودها لمواصلة تطوير جميع صناعاتها عالية التقنية، بما في ذلك تصنيع الرقائق، بشكل مستقل عن الغرب.
والغرب، من خلال سياساته العدائية التي تستهدف الصين، لن يفشل فقط في وقف صعود الصين كقوة تكنولوجية عظمى، بل سيكون قد عزل نفسه عن الفوائد التي ستتمتع بها الدول الأخرى التي تعمل مع الصين في ظل استمرار صعودها.
سياسة الولايات المتحدة تجاه الصين مدفوعة برغبة يائسة وغير عقلانية تماماً في منع صعود الصين. وهو شيء غير طبيعي، فالصين دولة يزيد عدد سكانها عن أربعة أضعاف عدد سكان الولايات المتحدة. وهي تخرّج الملايين في المجالات الأساسية بما في ذلك تخصصات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات التي تقود التنمية الوطنية، ولديها إمكانية الوصول إلى الكثير من الموارد الطبيعية.
لهذا كله، فإن صعود الصين أمر لا مفر منه. والموارد والطاقة والوقت الذي تضيعه الولايات المتحدة في محاولة احتواء صعود الصين وتأكيد نفسها فوق كل الدول الأخرى يمكن استخدامها بدلاً من ذلك لإيجاد دور بنّاء تلعبه بين الدول الأخرى كدولة مؤثرة قد يكون لديها ما تقدمه للبشرية، لكن الولايات المتحدة، شأنها شأن العديد من الإمبراطوريات التي سبقتها في التاريخ، تبدو مصممة على تبديد هذه الفرصة للانتقال السلمي إلى دولة قوية بين العديد من الدول القوية الأخرى، وبدلاً من ذلك تواجه احتمالات التفكك والانهيار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1152
آخر تعديل على السبت, 06 كانون2/يناير 2024 20:17