الجوع ليس خيالاً ولا مبالغة.. السياسات الرسمية تمهد للأسوأ!
قبل بضعة أعوام، خرج أحد المسؤولين في البلاد لينكر - بطريقة أثارت سخط السوريين- أن يكون هنالك أحد جائع في سورية. في ذلك الحين، كانت المؤشرات العامّة كلها تشير إلى تراجع الوضع الاقتصادي في البلاد بما في ذلك القدرة الشرائية للمواطنين الذين كانوا يقفون عاجزين أمام ارتفاعات الأسعار. اليوم، وبعد مرور سنوات قليلة فحسب، ترزح البلاد تحت وطأة انهيارٍ اقتصادي مكتمل المعالم، من تدهور قيمة الليرة السورية وتوقف عجلة الإنتاج بشكلٍ شبه تام، ذلك في ظل انكفاء جهاز الدولة عن القيام بأي شيء يخفف من درجة سوء الوضع الذي وصل إليه السوريون المهدّدون مجدداً بمزيد من الجوع الفعلي، جراء التراجع الهائل للدولة عن دورها في دعم قطاع الزراعة بوصفه واحداً من أهم شريانات الحياة.
يكاد يكون المثال الأكثر وضوحاً حول مستوى تراجع الدولة عن أداء دورها، متجسداً بما قامت به الحكومة مؤخراً، حيث وفي مثل هذه الظروف الاستثنائية التي يعاني فيها الفلاحون السوريون من استحالة تأمين الأسمدة والمازوت والبذار وأجور الحراثة وغيرها، وفي ظل الخسارات السورية المتراكمة في محصول القمح (خسرت البلاد خلال العام الماضي فقط ما لا يقل عن 3 مليون طن، وفقاً لوزارة الزراعة)، خرج المصرف الزراعي السوري معلناً رفع أسعار الأسمدة بنسبة قاربت الضعف!
أزمة السماد.. كالعادة تفاجأوا بالنتيجة!
كما هي العادة مؤخراً، لا يوجد على لسان المسؤولين سوى تكرار حجة تراجع التوريدات وصعوبة استيراد الأسمدة في ظل العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على سورية والتي لا تزال «تفاجئ» المعنيين في البلاد كلما ذكرهم أحد بدورهم المفروض...
وفقاً للاتحاد العام للفلاحين، تصل حاجة البلاد من الأسمدة الزراعية حوالي 500 ألف طن. في المقابل، تقول تقديرات وزارة الزراعة إن احتياجات البلاد تصل هذا العام إلى حدود 300 ألف طن. وبغض النظر عن تقدير الكميات التي تحتاجها البلاد، وهي عملية مثار خلاف حالياً بالنظر إلى أن الطريقة التي تتم فيها عملية الحساب تشوبها الكثير الأخطاء التي يؤكد عليها المختصون في ميدان الزراعة، فإن ما يهمنا هنا هو نقاش المسألة من زاوية دور الدولة في تأمين هذه الكميات - أياً كانت حاجة البلاد إليها- وإيجاد الحلول المناسبة لأزمة السماد سواء من ناحية دفع الإنتاج المحلي أو استيراد ما هو ضروري بالتعاون مع الدول الصديقة القادرة على تأمين حاجات البلاد للسماد جزئياً أو كلياً.
والمشكلة بطبيعة الحال ليست مشكلة ارتفاع أسعار الأسمدة فحسب، بل إن جانبها الأخطر يتجسّد في تلك الارتفاعات التي ستتبعها في أسعار مختلف السلع الغذائية، حيث سيكون ارتفاع أسعار الأسمدة عاملاً إضافياً في توسيع مقدار الفجوة بين دخل المواطن السوري وتكاليف المعيشة عموماً والغذاء خصوصاً. على سبيل المثال، يقدّر بعض المطلعين أن ارتفاعات أسعار القمح التي ستنتج عن ارتفاع أسعار الأسمدة قد تصل إلى 100%، ما يعني أن سعر القمح في سورية سيتجاوز سعر القمح عالمياً وبنسب عالية.
الحد الأدنى لتكاليف الغذاء: 1441% من الحد الأدنى للأجور!
وفق آخر حساب لتكاليف معيشة الأسرة السورية أجرته صحيفة «قاسيون» في نهاية شهر أيلول الماضي، فإن تكلفة الحد الأدنى لغذاء الفرد الواحد (بناءً على حاجة الفرد اليومية إلى حوالي 2400 حريرة من المصادر الغذائية المتنوعة) تصل إلى 259,470 ليرة سورية شهرياً، بينما تصل تكلفة الحد الأدنى لغذاء الأسرة السورية المكوّنة من 5 أفراد إلى ما يقارب 1,340,604 ليرة شهرياً. وعلى اعتبار الحد الأدنى للأجور في البلاد هو أقل من 93,000 ليرة سورية، فإن تكاليف غذاء الفرد تشكل 279% من الحد الأدنى للأجور، بينما تشكل تكاليف غذاء الأسرة 1441.5% من الحد الأدنى للأجور، هذا دون النظر في تكاليف المعيشة الأخرى، ووفقاً لحسابات عمرها حوالي 3 شهور، أي أنها شهدت حكماً المزيد من الارتفاعات الآن!
دعم الزراعة.. تراجع يزيد عن 96.4%!
وفق بيانات الأمم المتحدة لعام 2022، فإن أعداد السوريين داخل البلاد المعرّضين لخطر انعدام الأمن الغذائي قد ارتفعت إلى حوالي 13.9 مليون شخص. حيث ينتشر العوز الغذائي على نطاق واسع في جميع أنحاء البلاد، ويتوزّع السوريون الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي على محافظة إدلب (69%) وحماة (66%) والقنيطرة ودير الزور (كلاهما بنسبة 58%) وحلب (57%) ودرعا (56%) والحسكة (54%) والرقة (53%) وحمص (51%)، والسويداء وطرطوس (كلاهما بنسبة 50%)، وريف دمشق (46%)، بينما وصلت النسبة في محافظة دمشق إلى (41%) وفي اللاذقية (40%).
وكما ذكرنا في «قاسيون» سابقاً، لا يقتصر تدهور الأمن الغذائي على أولئك السوريين الذين لم يعودوا قادرين على إيجاد ما يسد رمقهم فحسب، بل إلى جانب ذلك، يعاني ملايين السوريين فيما يمكن اعتباره اختلالاً كبيراً بالنظام الغذائي: وفقاً لتقديرات برنامج الأغذية العالمية WFP، حدث تحول ملموس في سلوك الأسر السورية، تجلى بعدم قدرتها على تناول البروتينات والفواكه ومنتجات الألبان والبقوليات، واعتمادها في التغذية على السكريات والدهون والخضروات فحسب، ما يسلط الضوء على تدهور كبير في تنوع النظام الغذائي، الذي يتألف الآن من الأطعمة الأرخص وغير الغنية بالمغذيات.
في ظل هذه الأزمة الغذائية المتنامية، لا تزال تعاني البلاد من حالة التراجع التدريجي والمتسارع في الدعم الحكومي الموجّه للقطاع الزراعي عبر السنوات، حيث انخفض الإنفاق التقديري على دعم الزراعة، من 515,432,500 دولار في عام 2010، إلى 18,055,600 دولار في 2021، ما يعني أنه انخفض فعلياً بنسبة 96.4% تقريباً كما ذكرنا جزئياً في العدد الماضي. وتراجع الدعم يعني فعلياً المزيد من التدهور في وضع الزراعة، بما في ذلك بعض أهم جوانب عملية الإنتاج، كالأسمدة والبذار والري والنقل.
ولا يمكن اعتبار تراجع الإنفاق الحكومي التقديري على قطاع الزراعة مؤشراً وحيداً على الإهمال المتعمد لهذا القطاع الحيوي في البلاد، بل ثمة مؤشرات عديدة يمكن ذكرها في هذا الإطار.
أول الأمثلة على هذا الإهمال تتمثل في تراجع الأراضي المروية عبر مشاريع الري الحكومي من 817 ألف هكتار في عام 2002 إلى 271 ألف هكتار في عام 2021، وتراجع أعداد المطاحن الحكومية من 1028 مطحنة في عام 2000 إلى 526 مطحنة في عام 2021، وتراجع إنتاج صيصان الفروج من 8,254,000 في عام 2002 إلى 1,365,000 في عام 2021.
وكذلك الحال، تراجعت أعداد الإناث الحلوب من الأبقار من 672,000 في عام 2000 إلى 514,000 في عام 2021، كما تراجعت أعداد الفروج المنتج من جانب المؤسسة العامة للدواجن من 3,824,000 طن في عام 2002 إلى 1,067,000 طن في عام 2021.
كل هذا التراجع جرى في وقتٍ كان يجب أن تولي فيه الحكومة أهمية كبرى للقطاع الزراعي الذي يمثّل شريان حياة لا يمكن التخلي عنه في ظل ظروف الدمار الذي لحق البنية التحتية والعقوبات الاقتصادية التي ساهمت - كتفاً إلى كتف- مع سياسيات الناهبين الكبار المتخمين بثروات الشعب بإفقار الملايين من السوريين.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1100