تاريخ الدولارات الخارجة... ومصير الدولارات الداخلة؟
تحولت مسألة كتلة الدولارات السورية المحجوزة في أزمة المصارف اللبنانية إلى واحدة من العناوين الأساسية في الأسبوع الماضي، وعاد البعض بالأسباب إلى عشرات السنين وإلى بنية المنظومة الاقتصادية السورية ككل... وهو أمر منطقي، فالمسألة «تاريخية» أي: جرت لأسباب وتطورت نتيجة عوامل وتستمر نتيجة مصالح وآليات.
عموماً يعرف الجميع، بأن خروج الأموال من سورية وتهريبها هو أمر قديم، وهو نتيجة لتفاعلات في المنظومة الاقتصادية والسياسية، جوهرها تكدّس أرباح هامة وضعف الاستثمار داخل البلاد بسبب ضعف ربحية الاستثمار، فعموماً الأرباح في سورية كانت تحصل على 75% من الدخل السنوي الإجمالي، ولكن أصحاب الأرباح لا يستثمرون إلا ما هو أقل من 20% من الناتج... والمستثمرون الأساسيون كانوا من صغار ومتوسطي أصحاب الربح: المزارعون السوريون وأصحاب الورش والمعامل الصناعية بالدرجة الأولى... بينما شريحة المتخمين الذين يحصلون على أموالهم بالسهل والسريع فكانوا يخرجون جزءاً هاماً منها تاريخياً.
أمّا لبنان فهو الوجهة الأقرب والأسهل، وهو مركز مصرفي إقليمي منذ تأسيسه وواحدة من الوجهات الأساسية لاستقرار الأموال أو لعبورها إلى مصارف الغرب.
موجات خروج الأموال السورية
الموجة الأولى من خروج الأموال يعيدها البعض إلى عصر التأميم، والموجة الثانية تُعاد إلى مرحلة السبعينات وتوسّع كبير في حلقات الفساد الكبرى والثروات البيروقراطية التي ساهم فيها تدفق أموال الخليج النفطية إلى سورية، ومن ثمّ أزمة الثمانينات والتهاوي في قيمة الليرة، وترسّخ سوق سوداء للعملة، والوجود السوري في لبنان وتحديداً خلال التسعينات أي: ما بعد اتفاق الطائف، حيث يدور المال الخليجي في دوائر الفساد اللبنانية تحت مسمى إعادة الإعمار، في ظل وجود سوري (سياسي واقتصادي) يلعب دوراً هاماً في هذه المنظومة الفاسدة المتشكلة في حينها ويساهم في حصول قوى سورية هامة على حصة من عملية النهب الكبرى للبنان التي شاركت فيها كل النخب الحاكمة والمؤثرة لبنانياً وإقليمياً.
أما لاحقاً فإن مرحلة (التحرر الاقتصادي والتجاري السوري) التي كانت المصارف الخاصة السورية أحد عناوينها لم تستطع أن تنافس جدياً المنظومة المصرفية اللبنانية (بل كانت إلى حد بعيد امتداداً لها) ولم تجذب الأموال السورية التي بقيت تتدفق إلى المصارف اللبنانية... فالأخيرة كانت تتفاعل مع المتغيرات الدولية بمستوى أكبر وتجذب إليها كتلة لا بأس بها من التدفق المالي الدولي عقب أزمة عام 2008، وعبر أسعار فائدة وصلت إلى 35%...
«بيئة الأعمال غير الآمنة»
لدى أصحاب الأعمال مصطلح يكررونه كثيراً حول «بيئة الاستثمار»، لتوصف بيئة الأعمال والاستثمار في سورية بأنها «غير آمنة وبيروقراطية» وهي السبب في خروج الأموال من سورية وعدم تدفقها إليها كما يقول البعض، الأمر الذي يعكس حقيقة موضوعية يمكن توصيفها بالتوصيفات السياسية الاقتصادية... فالتحرير الاقتصادي في سورية كان امتداداً لحالة الاحتكار والتمركز العالي للربح، وكان آلية لدخول قوى الفساد البيروقراطية الكبرى إلى شراكات واسعة في السوق وخارج جهاز الدولة، ولكن باستخدام وزنه.
فتجري مثلاً عرقلة بيروقراطية لمشاريع لا تقبل الشراكة، ويتسهل- إلى حدود قصوى- تشكيل الكيانات الاقتصادية والمالية الكبرى، التي تعلن هذه الشراكة كما في الشركات القابضة. وبينما يريد رجال الأعمال وأصحاب الثروة في السوق التحرر من بيروقراطية جهاز الدولة وتحويله إلى مسهّل لأعمالهم، وإتاحة «تقاسم أكثر عدالة» للربح، فإن التحرر الاقتصادي أبقى على بيروقراطية جهاز الدولة كأداة في يد قوى الإثراء عبر الفساد، التي تعطي وتأخذ، ولكنها بالمقابل قوّة اقتصادية منافسة لبيئة الأعمال التقليدية، وهي منافس حاسم يمتلك القرار في السياسة الاقتصادية والمالية، وفي الموافقة والمنع! وهذا ما يسميه أصحاب الأعمال «بعدم الأمان».
وكل هذا قبل الأزمة، أي: قبل تدهور بيئة الاستثمار والإنتاج والبنى التحتية بشكل واسع، والتي تدفع رؤوس الأموال المنتجة والرابحة والمستقرة للخروج...
طرق التهريب وسوق العملة السوداء
عندما يتوفر السبب الموضوعي لهروب الأموال، تتوفر كل السبل المشروعة وغير المشروعة لخروجها. فالمصارف الخاصة يمكن أن تكون وسيلة لإخراج الأموال عبر حركة حساباتها مع بنوكها الأم في الخارج، والتجارة الخارجية يمكن أن تكون إحدى الطرق عبر تضخيم أرقام الصفقات والمدفوعات الخارجية لإخراج أموال عبرها... وصولاً إلى تهريب الأموال بالشاحنات كما تهرّب الأغنام والخضار، فالحدود السورية لم تعرف «الضبط الجدي» يوماً، وكان انفلاتها ولا يزال مصدر رزق أساسي لشبكات فساد هامة ومهيمنة.
أخيراً: فإن السوق السوداء للعملة الصعبة هي حلقة أساسية من حلقات تهريب الأموال، فخروج الأرباح من سورية إلى لبنان مثلاً يحتاج إلى تحويلها من ربح بالليرة إلى دولار يودع في المصارف اللبنانية... وجزء من هذه العملية يتم في السوق اللبنانية ولكنه هامشي، أمّا الجزء الأهم فهو يتم في السوق السورية، حيث تتوفر دائماً كتلة دولار متاحة للمضاربة.
إنّ هذه الكتلة المضاربية من الدولار «عالية الشأن» ومصادرها عديدة، ولكن الأدوات البيروقراطية والسياسات النقدية المدروسة هي من أهم داعميها. فعندما يكون سعر الدولار الرسمي بفارق عن سعر دولار السوق بنسبة 100% فإن دولاراً واحداً لن يتجه إلى المنافذ الرسمية، وسيجد ملايين المغتربين السوريين طريقاً عبر قنوات السوق السوداء لإيصال الأموال لذويهم كاملة.
وهذه النتيجة المحسومة لهذا السعر الرسمي الوهمي.. (الذي لم تعد تسعّر به الحكومة حتى مستورداتها!) تؤدي عملياً إلى تزويد السوق السوداء بـ 3 مليارات دولار سنوياً بالحدود الدنيا من تحويلات المغتربين فقط، وفق آخر رقم رسمي للحوالات. إنّ هذه المليارات من الدولارات تشتريها قوى السوق السوداء وتبيعها عملياً لهؤلاء الذين يهربون أموالهم إلى لبنان وغيره. ولو أن هذه الكتلة تصل إلى القنوات الرسمية لأصبح تهريب الأموال للخارج أصعب، ولكان استقرار سعر الليرة أعلى، وجدوى الاستثمار وربحيته أيضاً أعلى، ولقلّ حافز تهريب الأموال وتحديداً مع انتهاء الربح الجنوني من الإيداع في المنظومة المصرفية اللبنانية مع إصابتها «بالجلطة».
بالفعل، كان لخسارة الدولارات المودعة في المصارف اللبنانية أثر على تأمين الدولار لعمليات الاستيراد، التي كان جزء هام منها يتم عبر المصارف اللبنانية، وشكّل طلباً أعلى على كتلة الدولار الموجودة في السوق السورية... ولكن هذا آخر وأضعف حلقة في المصيبة الاقتصادية الكليّة في سورية: التي أولّها: الفساد، وآخرها الفساد، وما بينها مئات القنوات والأدوات.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 991