موازنة 2021...تدهور العامين الماضيين يقابل 8 أعوام من الأزمة!

موازنة 2021...تدهور العامين الماضيين يقابل 8 أعوام من الأزمة!

تبلغ موازنة عام 2021 رقماً قياسياً جديداً بالليرة السورية 8500 مليار ليرة... أي: بسعر صرف السوق الذي أصبحت الحكومة تسعّر عليه مستورداتها: حوالي 3.7 مليارات دولار، مع إعلان الحكومة أنها تنوي زيادة إيراداتها بنسبة 240%... مع بقاء عجز يقارب 2500 مليار، ستسدّه بطرق متنوعة هذه المرة! تحتل المالية العامة العناوين الأساسية في العمل الحكومي، والموازنة تكشف بعض النوايا... كما تكشف مستوى التدهور في العامين الماضيين بالقياس إلى سنوات الأزمة السابقة.

أولاً: تقليص نوعي للإنفاق العام

في كل سنة تقفز أرقام الموازنة العامة إلى عتبة جديدة مضيفة آلاف تريليونات الليرات... وفي 2021 فإن الحكومة ستزيد إنفاقها المعلن عن العام الحالي 2020 بنسبة: 112% وزيادة 4500 مليار ليرة. هذا بالطبع في الأرقام المعلنة، والتي لا نعلم إن أنفقت بالفعل في عام 2020، أو إن كانت ستنفق كاملة بالفعل في 2021. فكما قلنا وكررنا، الحكومة تخالف الدستور بتأخير إصدار قطع الموازنات، أي: الإنفاق الفعلي.
ولكن، وكما العادة فإنه مع تدهور قيمة الليرة والتراجع الكبير في قدرتها الشرائية، فإن هذه المبالغ تفقد قيمتها الحقيقية، فالحكومة تزيد كتلة الليرات في الموازنة، ولكنها عملياً تستطيع أن تشتري كميات أقل من القمح والمحروقات بهذه المبالغ الإضافية! لأنها تسعّر وتدفع للمستوردين على دولار السوق.
وإن بقي سعر السوق في 2021 عند الحدود الحالية، فإن الموازنة ستكون قد زادت فعلياً عن مستوى 2020 بمقدار قد يقارب مليار دولار... ولكن لا شيء مضمون. فموازنة 2020 بدأت بقيمة تقارب 9,2 مليارات دولار، إذا أخذنا سعر الصرف الرسمي، ولكنها انتهت فعلياً إلى أقل 3,2 مليارات بسعر دولار السوق!
أما المقارنة الأهم، فهي مع فترة أطول، مثلاً: عند مقارنة رقم الموازنة الجديد والبالغ كما أشرنا 3,7 مليار دولار تقريباً، مع رقم الموازنة في عام 2018 مثلاً، والبالغ 3187 مليار ليرة في حينها. حيث التراجع يفوق النصف! فقيمة الموازنة في 2018 قاربت: 6,3 مليارات دولار وفق سعر السوق أيضاً في حينها المقارب لـ 500 ليرة وسطياً.
والتراجع في الإنفاق العام الذي يعكس دور ومهمات جهاز الدولة كبير جداً خلال عامي احتداد الأزمة الاقتصادية في سورية، وتعمق الركود 2019-2020 ليصل إلى خسارة نصف فعالية ودور جهاز الدولة.

ثانياً: تخفيض نوعي
في الإنفاق الاستثماري

الجديد في موازنة عام 2021 أن الإنفاق الاستثماري العام، سيتراجع إلى نسبة: 17% من مجمل الموازنة... بينما كان يشكّل في الأعوام السابقة نسبة تقارب الربع تقريباً من الموازنة! وهو تراجع كبير ومؤشر على إعلان للتوجه بأن الحكومة لن تنفق على منشآتها الصناعية، وعلى توسيع مساهمتها الإنتاجية المباشرة، مثل: توسيع عمليات توليد الطاقة، أو الطرق، أو الإنتاج الزراعي العام، كما في الدواجن مثلاً، أو منشآت جديدة في التعليم أو الصحة. بل ستخصص مجمل إنفاقها للإنفاق الإداري الخدمي، ولكتلة الأجور.
المخصصات الاستثمارية في موازنة 2021 لن تتعدى 1500 مليار ليرة، وهي بالقياس الفعلي لقدرتها الشرائية بالدولار تقارب حالياً 650 مليون دولار. بينما كانت القيم المخصصة في 2018 مثلاً 825 مليار ليرة، وحوالي: 1,65 مليار دولار. أما في عام 2010 فكانت القيم تبلغ 327 مليار ليرة، وحوالي 3 مليارات دولار. ومجدداً التراجع في الإنفاق الاستثماري الفعلي خلال العامين الأخيرين هو أكثر من التراجع في مجمل الإنفاق الاستثماري لجهاز الدولة خلال 8 سنوات من الأزمة!

991-55

ثالثاً: زيادة الإيرادات من رفع الأسعار واستثمار الحقوق!

أشار البيان المالي الحكومي لموازنة 2021 بأن زيادة الإيرادات العامة ستبلغ 3500 مليار ليرة إضافية عن العام الماضي، أي: مستوى التحصيل الضريبي، ورفع أسعار الخدمات الحكومية، وهي مصادر الإيرادات العامة الأساسية، ستؤدي إلى زيادة في المدفوعات المقدمة لجهاز الدولة بنسبة تفوق 140%. وهي زيادة ستأتي من الإيرادات الجارية أي: من الضرائب والرسوم ومن بدلات الخدمات، والتي تتضمن بند فروقات الأسعار، أي: حصيلة الحكومة من رفع أسعار خدماتها، وكذلك ستأتي إيرادات تقارب 3507 مليارات ليرة إيرادات استثمارية، ومن حقوق الدولة، وهذه تتوقع الحكومة أن تحقق زيادة كبيرة فيها تقارب 215% وزيادة تفوق 2400 مليار ليرة... ومثل هذه الزيادة لن تأتي من النشاط الإنتاجي الحكومي الذي لن تنفق عليه إلا القليل، بل ستأتي بالدرجة الأولى من الإيرادات الاستثنائية وحقوق الدولة (كما في حصة الدولة من الاتصالات مثلاً) إذ يبدو أن الحكومة ترسم على عملية واسعة للمشاركة الاستثمارية في أملاك وحقوق الدولة، وتتوقع زيادة هامة في الإيرادات منها...
زيادة الإيرادات بهذه النسبة الكبيرة تدل على مسعى جدي لرفع أسعار الخدمات والمواد الأساسية، ومسعى جدي لزيادة الإيرادات من استثمار أملاك الدولة والحصول على (إيرادات استثنائية أو إيرادات حقوق منها).

رابعاً: العجز والتمويل من السوق

في البيان المالي لموازنة 2021 يتبين أن رقم العجز سيبلغ 2484 مليار ليرة، بزيادة تقارب 1000 مليار... ولكن الأهم من رقم العجز وزيادته، هي مصادر تمويله، إذ يشير البيان المالي للحكومة بأن 500 مليار ليرة، وقرابة ثلث العجز سيتم تمويله عبر الأوراق المالية الحكومية، مثل: سندات الخزينة وشهادات الإيداع، وسيكون هناك 200 مليار منها للمشاريع الاستثمارية التنموية الحكومية. بينما الثلثان الباقيان سيتم تمويلها عبر الاستدانة من المصرف المركزي. إن وسيلة التمويل هذه تعكس عملياً استخدام الأموال المتكدسة في المصارف العاملة في السوق لتمويل الإنفاق الحكومي، وهي حتى الآن عند معدلات فائدة وسطية 7% تقريباً. كما يعتبر اللجوء إلى آلية التمويل هذه أفضل من اللجوء إلى إصدار المصرف المركزي للنقود الذي يحمل آثاراً تضخمية أكبر. ولكن تبقى المشكلة ليست في تأمين التمويل بمقدار ما هي في طريقة توظيفه... فالحصول على تمويل لمدة سنة أو سنتين دون أن يستطيع هذا المال أن يحقق زيادة إنتاجية، ونقلة استثمارية، ومستوى توظيف وإنتاج ودخول إضافية، فإنه سيعني تحوّل هذه الآلية إلى عبء وليست رافعة.

 991-38

المشكلة الأساسية في المالية هي السياسة الاقتصادية

المشكلة الأساسية في المالية العامة السورية، ليست مشكلة مالية... بمقدار ما هي مشكلة السياسة الاقتصادية ككل. أي: الخيارات السياسية التي تحدد حجم دور جهاز الدولة وطبيعة دوره: على ماذا ينفق؟ من يدعم؟ أي دور يلعبه في حل المشكلات الاقتصادية الكبرى؟ مثل: تدهور الإنتاج والدخول وتوسع الفقر وتهاوي البنى التحتية وتوسّع البطالة، من يستفيد من مئات وآلاف المليارات المخصصة لتأمين الأساسيات؟ ما حصة فساد المتنفذين والمستوردين والشركاء والمتعاقدين مع جهاز الدولة؟! هل تؤدي هذه المليارات إلى إعادة رغيف الخبز ليكون متاحاً بسعر قليل وبكرامة وللجميع؟ هل تؤدي إلى زيادة إنتاج الدولة للبيض والفروج مثلاً؟ هل تؤدي إلى استعادة منظومة الشوندر السكري وإلى إنتاج أسمدة أكثر وبسعر أقل؟ هل ستدفع نحو إعادة أحياء وقرى ومناطق مهجورة ومدمرة للحياة مجدداً وتعيد إليها أهلها؟ هل تؤدي إلى زيادة إنتاج الطاقة الكهربائية والمحافظة على أسعارها عند مستوى منخفض؟ هل تؤدي إلى إنتاج خيط غزل بسعر أقل ويخدم سوق الصناعات النسيجية العامة والخاصة المتدهورة؟ هل تؤدي إلى زيادة عدد الأَسِرّة في المشافي والقابلية لمواجهة الطوارئ؟ هل تؤدي إلى زيادة مستوردات أدوية الأمراض المزمنة المدعومة؟ هل يمكن مثلاً أن تؤدي آلاف المليارات هذه إلى تأمين وجبات غذائية بالحدود الدنيا للأطفال في المدارس، علّ فقراء سورية يستعيدون الحافز لإرسال أولادهم إلى التعليم عوضاً عن إرسالهم إلى الشوارع والورش ليحصلوا قوتهم اليومي؟! أسئلة ليست رهن وزير المالية بطبيعة الحال، بل مرهونة بالقرار السياسي الاقتصادي الذي يحدد طريقة تخصيص الأموال والأولويات.
لا نستطيع أن نتفاءل كثيراً طالما أن العزم معقود على تقليص الوزن الفعلي للموازنة إلى النصف... فالموازنة بمبالغ أكبر من ذلك لم تكن قادرة على حل أية مهمة من هذه المهمات، ولو بشكل جزئي... والمشكلة الأساسية هي في استمرارية وتوسع المصالح التي تقود دفة الأموال العامة، والتي تجعل «بلوعة الفساد» والهدر تتضخم وجهاز الدولة يتقلص عاماً بعد عام وأزمة بعد أخرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
991