(الكبتاغون السوري) ملف سياسي وأسئلة ينبغي الإجابة عنها
مجدداً وخلال قرابة الشهر... تتم مصادرة شحنة مواد مخدّرة خارجة من الموانئ السورية، وهذه المرّة في رومانيا، التي أعلنت أن الشحنة المصادرة هي أكبر شحنة تصادرها السلطات بتاريخها، وذلك بعد أن سجلت السلطات الإيطالية في تموز 2020 مصادرة شحنة كانت الأكبر على مستوى أوروبا، وآتية من سورية أيضاً محملة بحبوب الكبتاغون والحشيش، حيث الكبتاغون مخدر صناعي من الميثافيتامين.
أعلنت السلطات الرومانية عن مصادرة حاويتين على سفينة شحن قادمة من ميناء اللاذقية في سورية، نتيجة حمولة ممنوعات بلغت قيمتها ما يقارب 60 مليون يورو، مكوّنة من 1480 كيلو غرام من الحشيش و751 كيلوغرام من حبوب الكبتاغون وما يقارب 4 ملايين حبّة.
وخلال 15 شهر بلغت كميات الحبوب المصادرة في الموانئ الدولية والخارجة من الموان السورية مقداراً يبلغ: 176 مليون حبّة، وما يزيد على 35 طن، قيمتها الوسطية قد تبلغ 2,8 مليار دولار، وفق السعر الوسطي للحبّة في الإقليم، وتفاصيلها موضحة في الجدول المرفق.
منشأ البضاعة
عادة ما كانت سورية تعتبر بلد عبور، ولكن التقارير الدولية تشير إلى تحول سورية إلى مركزٍ إنتاجيٍ لحبوب الكبتاغون خلال سنوات الأزمة... الكبتاغون الذي يسمّى (بمخدر الجهاد) والمنتشر في الشرق الأوسط وأوروبا، يمكن تصنيعه في ورشات دوائية صغيرة، بشرط توفّر إمكانية توريد مادته الأولية.... الأمر الذي يصبح أكثر إتاحة في حال وجود حالة تفلّت أمني، وعدم القدرة على ضبط الحدود، أو حتى الضبط الدقيق للمستوردات. (تفاصيل أكثر عن رصد المنظمات الدولية للتجار بالكبتاغون في سورية في عدد قاسيون 921)
وللأسف يتوفر في الحالة السورية كلا العاملين، حيث التهريب ظاهرة منتشرة إلى حدّ بعيد وفي كافة المجالات... كما تثبت حالة تكرار تصدير الحبوب المخدرة من الموانئ السورية غياب الضبط الدقيق للبضائع المورّدة أو الصادرة في التجارة الخارجية، وحتى في الشحن البحري.
في البيانات الرسمية للمصادرتين الأخيرتين في إيطاليا ورومانيا تذكر التصاريح الرسمية أنّ هذه المصادرات من إنتاج (داعش)، وقد أثيرت مجموعة من التساؤلات حول دقة هذه التصريحات مع التراجع الكبير لوجود داعش وتوسّع حجم المصادرات. ولكن أياً تكن الجهة التي تنتج هذه المواد، فإن هذه التصريحات تشير إلى أن تصنيعها في سورية، من طرف جهة تصنف عملياً (إرهابية) تمارس نشاطاً غير مشروع بشكل منظم، والأهم: أنها تستطيع أن تعبّئ منتجاتها في البضائع السورية وتخرجها بكميات كبيرة وبشكل دوري من الموانئ السورية وبأوراق رسمية!
ميناء اللاذقية ومسؤولية الجمارك
لا تذكر البيانات الرسمية للمصادرات الميناء الذي خرجت منه البضائع المحمّلة بالكبتاغون في كل الحالات، إذ ذكر البيان الرسمي الروماني ميناء اللاذقية واسم مصدّر البضاعة، كما أشار تصريح لمنظمة الأمم المتحدة UNDOC بأن اللاذقية هي مصدر الحاويات الواصلة إلى اليونان، بينما أشار التداول الإعلامي لتفاصيل المصادرة الإماراتية إلى أن اللاذقية هي منشأ حاويات الكابلات التي ضمت الحبوب المخدرة... أما البيانان الإيطالي والسعودي فلم يتطرقا إلى تفاصيل الميناء السوري الذي قدمت منه الشحنات.
أياً يكن الميناء المحلي الذي تخرج منه شحنات البضاعة المصدّرة، فإن مسؤولية معاينة البضائع الواردة أو الصادرة بالشحن البحري تقع على عاتق إدارة الجمارك السورية، وذلك وفق القانون 38 لعام 2006 قانون الجمارك، الذي يشير إشارة بسيطة إلى معاينة البضائع كجزء من مهام إدارة الجمارك: (معاينة البضائع بشكل سريع ومبسط وبصورة انتقائية، كلما رأت الجمارك حاجة أو فائدة من اللجوء إلى المعاينة(.
بينما في قانون نظام الاستثمار الموحد للمرافئ، يأتي ذكر نص يتيح لشركة المرفأ عند تخزين البضائع في مستودعاتها الجمركية: (يحق لشركة المرفأ رفض البضائع الممنوع تصديرها ورفض كل طرد آخر معطوب أو مشوه أو رديء الغلاف)، إلا أنه لا يأتي على ذكر ما يلزمها بالمشاركة في المعاينة.
إن المسؤولية المباشرة في مراقبة البضائع الواردة أو الصادرة بحراً، أو المخزنة في مستودعات الجمارك في المرافئ السورية هي مسؤولية الجمارك بالدرجة الأولى.
بينما لا يشير قانون المخدرات إلى دور أو مسؤولية جهات بعينها عن عملية مراقبة الحدود، كما لا توجد أية إشارة إلى صلاحيات إدارة مكافحة المخدرات التابعة لوزارة الداخلية بمراقبة المعابر الحدودية والبضائع الداخلة والخارجة بحثاً عن الممنوعات.
السكوت «الغريب»
رغم انتشار هذه الأخبار وتوثيقها من السلطات الرسمية للدول التي وصلتها الشحنات من سورية، إلّا أن هذه الأخبار لم يتم حتى تداولها في الإعلام الرسمي السوري، وتمّ تجاهلها بشكل تام، وهو الأمر الذي يحتاج إلى تفسير حول تجاهل قضية ساخنة مثل هذه، تشير على الأقل على وجود شبكة عبور مخدرات منظمة تستخدم المرافئ السورية بشكل دوري ولحمولات ضخمة هي الأكبر دولياً!
كما لم تعلّق إدارة مكافحة المخدرات التابعة لوزارة الداخلية على هذه الأخبار، وهي المسؤولة عن عمليات مراقبة وضبط الإتجار والتعاطي.
بينما آخر خبر معلن عن مصادرة إدارة الجمارك لمخدرات كان في عام 2018 عندما أعلنت إدارة جمارك اللاذقية عن مصادرة ممنوعات معدّة للتهريب إلى السعودية، ضمن بضائع مصدّرة وعبر المرفأ.
ويتناقض هذا السكوت عن ملف المخدرات في المرافئ مع مستوى التشديد الكبير في العقوبات الوارد في قانون المخدرات رقم 2 لعام 1993، والذي ينص على عقوبة الإعدام لمن يهرب مواد مخدرة، أو يصنعها دون رخصة، وهذه العقوبة التي يمكن أن تخفف إلى الاعتقال المؤبد أو المؤقت لمدة لا تقل عن عشرين سنة ومع غرامة... ويمنع التخفيف في العديد من الحالات، ضمنها: تكرار الجرم، أو ارتكابه من أحد العاملين في الدولة المنوط بهم مكافحة جرائم المخدرات، أو في حال الاشتراك في إحدى العصابات الدولية أو العمل لحسابها، أو في حال استغلال السلطة المخولة بمقتضى الوظيفة أو العمل أو الحصانة لارتكاب الجرائم أو تسهيلها.
فكيف تكون عقوبة القانون بمثل هذه القساوة للتهريب أو التصنيع، بينما يتم تجاهل عمليات منظمة ومتكررة لاستخدام المرافئ السورية في توريد أكبر شحنات كبتاغون في تاريخ مصادرات هذا الحب المخدّر؟!
الضرر الاقتصادي
لا يمكن حصر أضرار وجود سوق مخدرات بهذا الحجم مستقرة أو عابرة للبلاد، فالأضرار تتعدى الاقتصاد لتصل إلى التأكيد على وجود (مافيات) منظمة مرتبطة إقليمياً ودولياً، وتستطيع أن تستخدم أحد المرافق العامة بشكل منتظم. مع كل ما يحمله هذا من حجم المال الأسود ووزن تجارة الممنوعات في الأموال والثروات المتداولة داخل البلاد، فأقل الشحنات البحرية المذكورة تعني أنه يوجد على الطرف السوري قوى إجرام تترقب مبالغ تتراوح بين 60 مليون يورو وتصل إلى مليار يورو في كل عملية، مع نسبة ربح في هذا النوع من التجارة قد تتجاوز 5000% (بناء على الفارق بين تقدير إدارة مكافة المخدرات لسعر الحبّة محلياً كمؤشر على كلفتها، وبين سعرها الوسطي في الإقليم)، إن نسبة الربح هذه تجعل هذا النوع من الأعمال مغرياً جداً وقادراً على جذب الكثير من التوظيفات المالية والموارد!
أما التقديرات العامة لحجم السوق في سورية فقد أجرتها قاسيون سابقاً، حيث من الممكن أن يصل حجم هذه السوق إلى 16 مليار دولار سنوياً، وما يفوق الناتج المحلي الإجمالي... وهو ما يشير إلى وزن هذه القوى الاقتصادي، وبالتالي قدرتها على التحكم بمفاصل في جهاز الدولة والقرار، وقدرتها على توظيف شبكات لتسهيل حصول العمليات، والتكتم عنها في الداخل حتى في حال انكشافها في الإقليم.
تُضاف إلى ذلك الآثار الجانبية التي لا ينبغي التقليل من أهميتها في التأثير على سمعة البضائع السورية، وأكثر المتذمرين من عمليات التهريب هذه هم الصناعيون والتجار السوريون، حيث يتم استخدام بضاعتهم في التغطية على عمليات التهريب. فمرة تخبّأ البضائع في المتة أو الحليب أو الكابلات أو الأحذية أو المنتجات الكيماوية أو الصابون أو منتجات نسيجية وغيرها... ويشير أحد الصناعيين إلى أن تكرار هذه الحوادث يجعل البضائع سورية المنشأ والمشحونة بحراً موضع شك، إذ يقول أحد الصناعيين السوريين إن حاويتين من سورية تم إخضاعهما مؤخراً للتفتيش في دبي لمدة شهر، وتم الإفراج عن حمولتهما بعد التأكد من سلامتهما، ولكن المستلم رفض الاستلام بسبب التأخر! وهي إحدى الحوادث التي تتكرر مسببة خسائر، ومضاعفة الصعوبات على عمليات تصدير البضاعة السورية.
لا يوجد أي تحقيق ينفي أو يثبت تورّط بعض المصنعين أو ورشات تغليفهم في عمليات تهريب المخدرات إلى الإقليم وأوروبا، ولكن بالمقابل، لم يتم إيقاف عمل أي من هذه المصانع أو تقييد وجود بضاعتها في السوق المحلية، ما يشير إمّا إلى تجاهل تام وعدم وجود تحقيقات حتى سرية في هذا السياق، أو يشير إلى تبرئة هؤلاء الصناعيين، ووجود عملية تزوير منظمة للأوراق الرسمية الخاصة بهذه البضائع، الأمر الذي يمكن أن يتم عبر وكلاء للمصدرين ومكاتب تخليص وشحن جمركي مشاركة في هذه العملية.
ملف أمني وسياسي
إن ملف المخدرات وتحديداً تجارة الكبتاغون في سورية، وهو ملف يمسّ فعلياً سيادة البلاد، لأنه يهدد جدياً بتفشي الإجرام الدولي عبر سورية، فإن كانت ظاهرة الإرهاب الدولي لم تستطع بفعل التوازنات الدولية والإقليمية الجديدة أن تستوطن في سورية، وتحوّلها إلى منصة تصدير دولية للإجرام... فإن الوتيرة التي يتم بها شحن المخدرات والكشف عنها، وطبيعة التداول الإعلامي الغربي لهذا الكشف، توحي بأن ملف الإتجار بالمخدرات قد يتحول إلى ملف سياسي مستخدم دولياً.
أي أن ضرر الإتجار بالمخدرات عبر المعابر الرسمية ليس فقط اقتصادي- اجتماعي، بل هو أيضاً أمني وسياسي، كما لا يمكن فصله عن نشاط الإرهاب والقطاع الأسود الإقليمي والدولي بأية حال من الأحوال، وهو يشير إلى وزن هذا القطاع وقدرته على اختراق وتوظيف المرافق والجهات العامة.
إن منتجي الكبتاغون، ومن يسمحون لهم بالتعبئة محلياً والعبور على الطرق السورية، والوصول إلى المرافئ، والشحن في الحاويات، والسكوت على هذه العمليات... جميعها (شبكة واحدة) إجرامها: اقتصادي- اجتماعي- ووطني.
أسئلة تحتاج إلى الإجابة؟
لماذا لا يتداول الإعلام الرسمي هذه المعلومات حول شحنات الكبتاغون الكبرى المثبت خروجها من المرافئ الرسمية، مع أن هذا الملف بمثابة تهديد وطني؟
2- هل توجد تحقيقات تجري في هذه الملفات دون إعلان؟ وإن وجدت، فكيف تتكرر هذه العمليات بهذه الوتيرة، ليكون المكشوف منها خمس شحنات خلال 15 شهر، وغير المكشوف أكثر من ذلك بطبيعة الحال؟!
3- إنّ الجهات المرتبطة بهذا الملف تتركز في إدارة الجمارك المسؤولة عن معاينة البضائع، أو الجهات المعنية بملف المخدرات في وزارة الداخلية، أو حتى في إدارات المرفأ التي يسمح لها القانون بمنع استقبال البضائع في مستودعاتها... فلماذا لم تشهد هذه الجهات أية عمليات إقالة خلال عام مضى، رغم ارتفاع كبير في وتيرة المصادرات؟! وباستثناء استبدال مدير إدارة مكافحة المخدرات السابق دون توضيح الأسباب، ما تفسير عدم وجود أي تحميل للمسؤوليات وإجراءات تصل للإقالة في هذه الجهات المعنية مباشرة بهذا الملف؟!
3- أليس من السهل العودة إلى الأوراق الرسمية في سجلات هذه البضائع المصدرة، والوصول إلى مراكز إنتاج البضاعة أو مكاتب التخليص التي ساهمت بتزوير مصدرها؟
4- كيف يتم نقل كل هذه الكميات على طرق النقل البرية في سورية، بينما تنتشر نقاط العبور والحواجز في كل مكان وعلى كل مداخل المدن، وضمن المرافق العامة؟
*البضائع شحن من الموانئ السورية، وهي التي لم تحدد التصريحات الرسمية أو وسائل إعلام معتمدة عن الميناء السوري الذي خرجت منه البضاعة، سواء طرطوس أو اللاذقية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 982