تركيا... الليرة والطاقة والحاجة لسياسة (صفر مشكلات)
ليلى نصر ليلى نصر

تركيا... الليرة والطاقة والحاجة لسياسة (صفر مشكلات)

مسألتان أساسيتان تحتلان موقع الصدارة في الواقع الاقتصادي التركي: العملة المحلية، وأمن الطاقة... وكلا الجانبين يتناقضان بالعمق مع سياسة المناورة التركية واللعب على حبال التوازنات الدولية، كما يوضحان حاجة تركيا إلى سياسة عقلانية خارج مفهوم الرعونة والاعتداء كطريق للتفاوض. فتركيا تناور في لحظة قلقة أكثر ما تحتاجه فيها اقتصادياً هو (صفر مشكلات)!

تراجعت قيمة الليرة التركية بنسبة 19% تقريباً خلال عام 2020، وفقدت خمس قيمتها تقريباً... وهذه المرّة يأتي الانخفاض مترافقاً مع الأزمة الاقتصادية العالمية وأزمة الوباء، ليرفع معه معدل التضخم ويرتفع المستوى العام للأسعار في تركيا بمعدل 12% تقريباً، مؤدياً إلى تفاعلات اقتصادية واجتماعية في ظل التراجع الاقتصادي والبطالة.

رغم ذلك لا يزال الاقتصاد التركي في وضع أفضل نسبياً من غيره في ظل الأزمة الحالية... وتقديرات تراجعه الاقتصادي في عام 2020 تتراوح بين -1,6% وفق البنك المركزي التركي، وصولاً إلى -5% التقديرات التي سجلها صندوق النقد الدولي. والتقديرات شديدة التباين ليست جديدة بين الوكالات الدولية التي تُصعّد أزمة الاقتصاد التركي، والسلطات التركية التي تخففها.
ولكن حتى بأسوأ التقديرات فإن معدل التراجع التركي أقل من وسطي التراجع المقدّر لاقتصاديات دول مجلس التنمية والتعاون الدولي وفق وكالة بلومبرغ. ومنذ شهر حزيران عادت الصناعة التركية للنمو وعوّضت خسائر شهر أيار، حتى أنها سجلت نمواً بسيطاً بالقياس في شهر 6-2019.

تركيا قد تشهد تدهوراً اقتصادياً سريعاً!

يتدخل البنك المركزي بكل طاقته لضخ المال في شريان الاقتصاد التركي، فمن حزمة مساعدات بمقدار 33 مليار دولار بالعملة المحلية، إلى توسيع الإقراض عبر البنوك المحلية، ليرتفع الإقراض بنسبة 40% في الأشهر الثلاثة الأخيرة. وصولاً إلى ضخ القطع الأجنبي في السوق لتخفيف تراجع العملة، وهو ما أدى إلى تراجع في الاحتياطيات التركية من العملات الأجنبية بمقدار يقارب الثلث، وصولاً إلى 49 مليار دولار، بينما قيمة الاحتياطيات الذهبية تقارب اليوم 40 مليار دولار تقريباً.
لن تستطيع الحكومة التركية أن تدير أزمة تراجع الليرة عبر عمليات الضخ لوقت طويل، والعملة قد تشهد انهيارات متتالية رغم تحسن بعض المؤشرات، وتحديداً مع تراجع القدرة على تعويض هذه المخازين، نتيجة تراجع الصادرات التركية الذي بلغ-35% في الربع الثاني من العام الحالي، واستخدام الحكومة لأرصدة البنوك المحلية بالقطع الأجنبي، لتمويل قيمة الليرة ما يزيد الدَّين الحكومي.
الديون التركية خارجية بمعظمها، وقد وصلت إلى 431 مليار دولار، ونسبة تفوق 56% من الناتج، والنسبة الأعظم منها تعود لقطاع الأعمال والشركات، ومن ضمن هذه الديون فإن 164 مليار دولار ديون قصيرة الأجل يستحق دفعها خلال عام قادم وستشكل ضغطاً كبيراً على الليرة التركية في المرحلة المقبلة مع استمرار الأزمة العالمية واضطراب العلاقات السياسية لتركيا...
التصعيد بين تركيا والغرب قد يُدخل على الوضع الاقتصادي التركي معطيات جديدة تدفع إلى تدهور سريع، وتحديداً التهديد بالعقوبات الغربية الذي تعود نغمته مؤخراً مع الأزمة التركية حول الحدود البحرية مع اليونان والتنقيب في شرق المتوسط.
إنّ عقوبات غربية على تركيا تلتزم بها دول الاتحاد الأوروبي والخليج قد تؤدي إلى انهيار في قطاع التصدير التركي، حيث نسبة 86% من الصادرات التركية تتجه إلى أوروبا الغربية وأميركا الشمالية والشرق الأوسط.
الولايات المتحدة هي الطرف صاحب المصلحة الأوضح في تطبيق العقوبات، بينما قد تتضرر أوروبا جدياً من تراجع العلاقات التجارية مع تركيا، ومن احتمال فشل الديون التركية التي يعود جزء هام منها للبنوك الألمانية.
وعلى هذا الأساس تبحث تركيا عن حلول من خارج الصندوق، وترفع أوراقها التفاوضية وتناور على كل الأطراف في الوقت ذاته... الأمر الذي يبدو واضحاً في ملفات الطاقة.

الطاقة والبحث عن مناورة (ضيقة الأفق)

تبدو تركيا مصرّة على توسيع مياهها الإقليمية وتثبيت حقها في مياه شرق المتوسط والغاز المتوقع ضمنه. ورغم أن الترجيحات تشير إلى أن تركز الغاز يكمن في جنوب وغرب منطقة شرق المتوسط، إلّا أن تركيا لا تبدو مستعدة لتفويت أية فرصة لوجود الغاز في المياه الإقليمية المتنازع عليها. وقد ذهبت إلى الاتفاق مع ليبيا الذي يهدد بقطع طريق مشاريع مد الغاز من الحقول (الإسرائيلية) والمصرية والقبرصية إلى أوروبا، ويوصل الوضع إلى صراع عسكري مع القوى الإقليمية حول ليبيا، وجميعها قوى لا قدرة ولا مصلحة لها بالتصعيد.
ورغم أن تركيا بدأت بالتنقيب في المياه المتنازع عليها، إلّا أنها أعلنت عن اكتشافات في البحر الأسود، ولكن الاكتشاف لا يشكل نقلة نوعية، فحجم احتياطي الغاز في الحقل المكتشف يعادل سبع سنوات فقط من استيراد تركيا للغاز. ولكنه إضافة قد تدعم أمن الطاقة التركي، وتحديداً ان السلطات تقول أنه سيدخل الإنتاج في 2023.
إنّ أمن الطاقة هو مسألة تركية ملحّة، فتركيا خلال 15 سنة الماضية كانت ضمن الدول الأعلى نمواً في الطلب على الطاقة، مع فاتورة استيراد تقارب 41 مليار دولار في 2019 ومن المتوقع أن يستمر النمو السنوي في الطلب على الطاقة بنسبة 4-6% سنوياً حتى 2023.
تركيا لديها إستراتيجية للطاقة حتى عام 2023 (وهو الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية) تنص على زيادة الاستقلالية وأمن الطاقة التركي، من ضمنها توسيع إنتاج الطاقة البديلة لتشكل نسبة 30% بينما هي اليوم 13%، وهو ما قد يحتاج إلى استثمارات تقارب 60 مليار دولار.
وفي المقابل، فإن السيل التركي مشروع أنابيب مد الغاز الروسي إلى تركيا، وعبرها إلى الجنوب الأوروبي، سيؤمن لتركيا 30% من استهلاكها للغاز تقريباً، ويؤمن لها عائدات من تجارة الغاز لأوروبا عبر أراضيها.
ولكن قد يكون هذا المشروع مهدد بالعقوبات الأمريكية، وفق ما تشير تقديرات روسية مع تخوفات من مستوى التجاوب التركي، فرغم إطلاق المشروع في العام الحالي إلا أن عملية الضخ لم تتدفق وفق الطاقة المتوقعة حتى الآن... بل شهد العام الحالي تبدلات في تجارة الغاز التركية على العكس من المتوقع.
إذ تراجعت واردات روسيا عبر شركة غاز بروم إلى تركيا بنسبة 72% خلال 2020 بالمقارنة مع العام الماضي، مقابل توسّع في استيراد الغاز من أذربيجان التي ورّدت لتركيا ربع حاجتها من الغاز، بينما تراجعت الحصة الروسية إلى 10% وهي التي كانت تحتل ثلث الواردات في 2019. كما ازدادت الواردات التركية من الغاز المسال من الولايات المتحدة وقطر، إذ زادت تركيا في هذا العام واردات الغاز من أميركا بنسبة 300% بالقياس بالعام الماضي!
وهي سياسات تعكس المناورة التركية، وتخوفها من فرض العقوبات الأمريكية... ولكنها في المقابل لا تستطيع إلّا أن تكون سياسات مؤقتة، فالولايات المتحدة لن تستطيع أن تقدم شيئاً لتركيا إلّا التلويح بالعقوبات التي تؤخر الاستدارة التركية وتدفعها للبحث عن أوراق تفاوضية لتجعل مهاجمتها أغلى ثمناً. ولكن فعلياً لن تنقذ الاقتصاد التركي إلّا العودة إلى علاقات (صفر مشاكل)، وتطبيع العلاقات مع الإقليم لأنه مساحتها الاقتصادية الموضوعية، وهو ما يؤمن سحب الذرائع وتخفيف التوتر مع أوروبا، التي لن يكون من السهل أن ترفض عقوبات أمريكية، ولكن تركيا بسياسة الهجوم بغاية التفاوض، لا تجعل الأمر سهلاً سواء على الأوروبيين أو على الإقليم، وحتى على الروس الذين يمتلكون وضعاً أفضل يتيح لهم استيعاب الرعونة التركية، وتثبيتها بعلاقات استراتيجية للمستقبل

معلومات إضافية

العدد رقم:
982
آخر تعديل على الإثنين, 07 أيلول/سبتمبر 2020 12:38