نموذج الفساد السوري...  أهم مواضع ثروته

نموذج الفساد السوري... أهم مواضع ثروته

تضع المؤشرات الدولية سورية في رأس قائمة مؤشر الفساد، ويعلم السوريون أن المؤشرات الدولية مسيسة، ولكنهم يعلمون أيضاً أن هذه المؤشرات (لا تعطي فسادنا حقّه)، فالفساد في سورية هو بنية متكاملة ومنظمة، وليس (ضربات شطارة استثنائية). إنه عمود أساس في تهاوي البلاد وتراجعها منذ عقود مضت، مقابل تراكم ثروات شخصية ضخمة سيكون الزمن كفيلاً بكشف عورتها.

يصعب الوصول إلى تقدير ملموس لأرقام النهب المنظم في سورية، لأن الإثباتات الرقمية والقانونية حول الملفات الكبرى تبقى في الغرف المغلقة، وفي دوائر الولاءات الضيقة. وإن وصلت فإنك لن تجد منظومة سياسية قانونية تتفاعل جدياً، إذ قد تتحرك فضائح ولكن بناء على تناقضات قوى المال غالباً، ويذهب ضحيتها (موظفو فساد) من الدرجات الثالثة وما دون وزير هنا ومدير هناك... وهذا في أحسن الأحوال، لأنه في أغلب الأحوال الأخرى ينكفئ العارفون مقدرين عواقب المسّ بمنظومة قائمة على النفوذ والمال والقوة، دون حريات سياسية ومنظومة قانونية تحميهم. 

 

 

ولكن لا يصعب على أي طرف جدي أن يقارب مواضع وآليات الفساد العامة، وبالتالي مواضع وآليات اجتثاثه الضرورية. فالفساد يتحرك حيث تخلق الثروة ويتم تداولها.

ما هو الفساد؟

الفساد في النهاية هو جزء من الربح، ولكنه الجزء غير الشرعي. يعتمد بالأساس على وزن النفوذ والقوة وعلى الامتيازات البيروقراطية، أي يعتمد على امتيازات جهاز الدولة كجهاز قمع وتنظيم. ويتحول إلى أوزان نوعية في السوق، كما أنه يتشابك عموماً مع قوى السوق الكبرى. إنه حصة طفيلية قائمة على القوة و(السلبطة)... وهو يقتطع من الدخل والثروة المنتجة، وكلما كبر وتوسع يقلل فعالية العمليات الاستثمارية ويشكل عقبة في وجه أي تقدم للأمام. إنّه حصة يقتطعها الكبار من الأموال والثروات الواقعة تحت أيديهم والتي يديرها جهاز الدولة، ومن أموال وأرباح من هم أصغر منهم في السوق، وهؤلاء بدورهم يقتطعون من الحلقات الأدنى، بل ويصل الفساد إلى مستويات من الضحالة والعنف ليقتطع مباشرة من لقمة المستهلك النهائي أو ماله أو ممتلكاته... وكل هذا يحوّل الفساد إلى آلية شاملة تُبقي للشرائح الأقل دخلاً ما لا يُذكر، وتدفعهم للانخراط في منظومة الأخلاق الفاسدة لكبار الفاسدين.

من أين يُقتطع؟

يقتطع الفساد من كل موضع تُنتج فيه الثروة والدخل أو يتم تداولهما. وكلما كان القطاع أعلى دخلاً كلما تمركز الفساد، وضبط عملياته ووضع يده.
وإذا ما أتيت إلى بلد مثل سورية، فإنه يمكن القول إن الفساد يضع نصب عينيه قطاعات مثل: النفط – الطاقة- العقارات- الزراعة – النقل – الاتصالات- والصناعة بدرجة أقل، كما أنه ينشط بطبيعة الحال في التجارة الخارجية والداخلية، وفي قطاع المال والمصارف حيث تتجمع الأموال. أي في كل مجال اقتصادي، كلّ حسب أهميته وحجم الثروة فيه.
وفي كل هذه القطاعات تعمل آليات متنوعة، ووفق (الاختصاص)، ولكن يمكن إيجاد عوامل مشتركة فيما بينها.

السلب من الثروات العامة

بداية، هنالك وضع اليد المباشر وغير المباشر، وهذا في المجالات التي يمتلك المال العام حصرية إنتاجها وتداولها. كما في قطاع النفط مثلاً، الذي لم تكن بياناته تدخل الموازنات أو تُعلن بالكامل، وعدا عن هذا يتم امتصاص إمكانات الربح من هذا القطاع بكافة الأشكال، فيتم التعاقد مع شركات للإنتاج والتخديم مقابل امتيازات، ويُصدّر النفط خاماً مقابل عمولات للوكلاء، وتُستورد المشتقات عبر دائرة مؤسساتية ضيقة ووكلاء محددين وبأسعار مضخّمة، ويُخصّص مبلغ كبير لدعم المحروقات بينما كلفها الحقيقية أقل من أسعار مبيعها المدعومة، فتُنهب مبالغ من الدعم، وتتحول المشتقات المدعومة إلى باب تهريب كبير. أما اليوم هذه العملية تستمر وتشتد مع ارتفاع كلف الاستيراد وتسليمه للوكلاء، وإدخال شركة في خدمات التوزيع لا يعلم أحد ما حصتها ومَن أصحابها وكيف حصلوا على هذا الامتياز، وهل كانت هنالك عروض أخرى، أو هل كان وجودها ضرورياً فعلاً؟!.
والأمر ذاته في المنتجات الزراعية الكبرى، المحاصيل الإستراتيجية، التي كانت الدولة تستلمها وتدير توزيعها، بل أيضاً في أراضي الدولة والسمسرة في المخالفات والتعدي وصولاً لبيعها وعرضها للاستثمار، وكذلك في قطاع الطاقة الكهربائية حيث الفساد من عقود الاستثمار واستيراد المعدات إلى الصيانة إلى التوزيع والتغافل المنظم عن الاستهلاك الكبير. وهي أهم المواضع، حيث تنتج ثروة مادية لجهاز الدولة حق التصرف بها، وللفساد مزايا هذا الحق.

إدارة المال العام والخدمات

عموماً، يعتبر التصرف بالمال العام أو السلطات العامة في كل القطاعات باب نهبٍ هامٍّ، قدّره الاقتصاديون السوريون بنسبة قد تصل إلى 50% من ناتج جهاز الدولة، (كتاب د. قدري جميل قضايا اقتصادية). فكل عملية يقوم بها جهاز الدولة: للاستيراد أو للتوكيل والتعهد هي (باب رزق): إذ يسعى المتنفذون ليحصلوا على أعلى مبلغ من المال العام مقابل أقل تكاليف، فَتُضخّم الفواتير (بنسب تصل إلى 10 أضعاف في بعض الأمثلة)، وتُحصر فيه العقود والمناقصات لوكالات كبار الفاسدين وشركاتهم، أو للأطراف والشركات الدولية التي تدفع لهم أعلى سمسرة، وبالمقابل، تنفّذ العمليات غالباً بأسوأ المستويات وأقل التكاليف وبمخالفات للعقود لتقليص التكاليف. أي إن أغلب تعاملات الدولة مع أطراف خارجية وداخلية وفي جميع القطاعات لتلبية احتياجاتها وتحديداً الكبيرة منها، هي بمثابة (نصبة) تمرّ عبر وكلاء كبار الفاسدين وشركاتهم، أو عبر الأطراف الدولية التي يعملون هم شركاءً لها.
كما أن إدارة الخدمات العامة هي باب نهب هام، فعندما نتحدث عن قطاع النقل مثلاً، المعابر الحدودية والمرافئ تحديداً فإن نشاط الفساد عالٍ ومتركّز، ليستثمر في التهريب والمخالفات بل حتى في القطاعات السوداء، ويحصل على حصة من قوى السوق العاملة بالتجارة، مقابل تزوير المواصفات وتقليل المدفوعات الجمركية. وإذا تحدثنا عن قطاع الاتصالات فإن هذا القطاع عالي الدخل وبقرة حلوب، وبشكل شرعي لقوى النفوذ الكبرى، التي غيرت العقود وأزاحت حصة المال العام علناً.
ولا تستطيع أن تستثني أي قطاع خدمي عام آخر، إلا ونهش الفساد قدراته، وفتح للسوق مجالاً استثمارياً فيه، كما في الصحة والتعليم. كأن تتحول الكتب المدرسية والمناهج إلى صفقات تجارية احتكارية، وأن تتحول مخصصات الأدوية السرطانية إلى باب تجارة وهلم جرّا... مع كل هذا تتقاطع التجارة الخارجية والداخلية، حيث يتم توزيع احتكار سوق مواد أساسية في دوائر ضيقة، استيراداً أو تصديراً أو حتى في السوق المحلية سواء بالدخول النظامي أو التهريب...

الفساد أعاق التطور

إن الفساد يتحول إلى عائق مباشر أمام الاستثمار الحقيقي وتوسع الزراعة والصناعة وتطوير بنية النقل والإسكان والطاقة وغيرها، فهو غير مهتم بها طالما أنه يستطيع أن يحصل أعلى دخل دون تكاليف. وهو يعيق استثمار أطراف السوق الأخرى أيضاً في هذه المجالات، لأن قوى السوق مضطرة للسعي لمجاراة معدلات ربح الأثرياء المتنفذين، حرصاً على ألّا يتم ابتلاعها تماماً من قبلهم، وهي عملية تمت في الكثير من المجالات. لذلك فإن استدامة التخلف والتدهور في البنية الاقتصادية السورية يرتبط بمنظومة الفساد الاقتصادية، وهي نتاج لها... وهو عامل حاسم في الوصول إلى الأزمة التي تعيشها سورية، وفي طريقة إدارتها: اقتصادياً بل وسياسياً، فإن أحداً من هؤلاء المتنفذين الكبار لا يرغب برؤية تغييرات جدية في المنظومة. الفساد يستمر اليوم بآلياته التقليدية، ولكنه مع ضيق النشاط الاقتصادي يصل إلى دَركه الأسفل: ميليشيات مباشرة تفرض إتاوات على النشاط الاقتصادي، وتسلب بشكل منظم، وتحتكر بقوة السلاح، وتعمل في القطاعات السوداء، وتشتري بأرخص الأسعار ثروات البلاد، وتهرّب أموالها للخارج، وتنشط في المضاربة وغيرها... لا يمكن تجاوز احتمالات العودة للفوضى مع استمرار هذه المنظومة، ولا يمكن أن ننتقل لاحقاً لإعادة إعمار فعلية ونحن مثقلون بعبء الفساد الكبير، الذي يتحول اجتثاثه إلى ضرورة وطنية اليوم قبل الغد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
931
آخر تعديل على الإثنين, 16 أيلول/سبتمبر 2019 12:35