السياسة النقدية تدخل مرحلة خطرة: إطلاق الإقراض وطلب الدولار
يبدو أن التحضيرات لمرحلة جديدة من السياسة النقدية في سورية، وصلت إلى التطبيق، وعلى العكس من المشاع بأن التغييرات ترتبط بتغيير الوجوه في المصرف المركزي، أو في الحكومات، فإن السياسة النقدية تسير على خط واحد حتى الآن... وهو منسجم كل الانسجام، مع منطق (إعادة الإعمار) أو (عودة النشاط الاقتصادي) عبر المستثمرين وتحفيز رؤوس الأموال للعمل.
عملت السياسة النقدية منذ منتصف عام 2016، وخلال 2017، على إنهاء مرحلة المضاربة العشوائية على سعر الصرف، السياسة التي تنسجم مع ظروف الاضطراب السياسي والأمني، والتي جعلت الربح من خسارات الليرة نشاطاً أساساً لقوى المال السورية. واستقر سعر صرف الدولار، وهدأ التضخم نسبياً منذ تلك المرحلة، ولم يعد يقفز بنسب بالعشرات بالمئة.
الجزء الآخر من السياسة، في تلك المرحلة، كان توسيع دور المصارف، على حساب المؤسسات المالية الأخرى، شركات ومكاتب الصرافة. وتحديداً تم التركيز على تعبئة جزء هام من السيولة بالليرة إلى ودائع في المنظومة المصرفية. كما تم التأسيس لنظام التسويات الإجمالي، لسهولة الإيداع والسحب والتحويل بين المصارف..
كما تم الإعلان عن النية لبدء الإقراض ثم تجميده بالضوابط لمدة تفوق السنة تقريباً، وتم الإعلان عن نِيّة إطلاق سياسات دَيْنٍ عام جديدة، مثل: شهادات الإيداع وسندات الخزينة. أي: سياسات تأمين السيولة للحكومة عبر الدِّين من السوق مقابل فوائد، وليس عبر إصدار النقد من المصرف المركزي إلى الحكومة.
أي: تم تحقيق استقرار نسبي في سعر الصرف، وتجميع جزءٍ هامٍ من السيولة في المصارف، وتخفيض سعر الفائدة بنسبة تفوق الثلث وتقارب 40%. من وسطي يقارب 11% وصولاً إلى 7%. ولم يتم إطلاق الإقراض، أو البدء بآليات التمويل الحكومي الجديدة، مثل: شهادات الإيداع والسندات وغيرها.
وهو ما سيبدأ قريباً، في مرحلة التطبيق التي تبدو قادمة مع مطلع العام القادم.
فتح الإقراض على مصراعيه!
خلال أسبوع مضى، ألغى قرار مجلس النقد والتسليف، قرارات ضوابط الإقراض السابقة جميعها، وفق القرار 172 لعام 2018 المنشور على موقع المصرف المركزي والذي يُلغي القرارين 52، و27 لعام 2017.
ما يعني أن المصارف ستصبح قادرة على تحويل الودائع المتكدسة لديها إلى كتلة نقدية تنتقل للسوق، سواء للاستهلاك الشخصي، أو للإقراض الإنتاجي، أو الخدمي، دون أية ضوابط حتى الآن... كما أن فتح الحسابات الجارية المدينة سيصبح أيضاً دون ضوابط، ما قد يزيد الودائع بمقابل الإقراض، ولكن بفوائد أقل من السابق.
وهذا يعني: إطلاق يد المصارف في إقراض سيولتها النقدية للسوق.. بسعر فائدة أقل بنسبة تفوق الثلث. الأمر الذي سيوسع كتلة الليرة المتداولة في السوق السورية.
وعلى الرغم من أن تحريك الإقراض هو ضرورة، وتخفيض سعر الفائدة كذلك الأمر، إلّا أنه ضرورة من موقع تحريك القدرة على الاستثمار الإنتاجي، بالدرجة الأولى، وزيادة القدرة الاستهلاكية لأوسع شريحة اجتماعية بالدرجة الثانية، الأمر الذي يحتاج إلى ضوابط محددة ومفهومة للإقراض! وعدا ذلك، فإن فتح باب الإقراض دون ضوابط، إجراء يتضمن خطورة، لأن السيولة قد تتحرك باتجاه يتناسب مع طبيعة النشاط الاقتصادي لكبار السوق في اللحظة الحالية، كالعقارات مثلاً، وقطاعات استهلاك محددة، كتجارة السيارات مثلاً، وغيرها من القطاعات التي تحفز ارتفاع الأسعار! فعلى سبيل المثال: انتقال جزءٍ هامٍ من الإقراض إلى القطاع العقاري، هو عامل تضخمي، يؤدي إلى عودة استعار الأسعار فيها، وتجر معها مؤشرات تضخمية أخرى. وكذلك الأمر مع أنواع أخرى من القروض.
إن هذا الإجراء قد يعني توجيه كتلة الليرة إلى الإنتاج، وقد يعني توجيه الكتلة الأكبر من الليرة إلى النشاط في القطاعات المضاربية، التي تسم طبيعة الأعمال وتبييض الأموال في سورية اليوم. لذلك فإن عودة الإقراض صِحيّة، ولكن إزالة الضوابط ضربة واحدة وبمجملها، يحمل مخاطر على قيمة الليرة، وعلى مستويات الأسعار في الفترة القادمة.
المركزي سيطلب الدولار!
الجزء الثاني من السياسة الذي سيدخل التطبيق قريباً، هو إصدار المصرف المركزي شهادات الإيداع بالقطع الأجنبي. التي أعلن حاكم المصرف المركزي أنها ستكون جاهزة خلال الأسبوع القادم.
وشهادات الإيداع تعني: أن يُصدر المركزي أوراقاً مالية، ويبيعها للسوق مقابل القطع الأجنبي، وعبر المصارف، ويتعهد بإعادة قيمتها مع فائدة بعد مدد زمنية. أما معدل الفائدة فلم يتضح بعد، ويمكن أن يثبّت حكومياً، أو أن يحدد بالمزاد أي: وفقاً للطلبات المقدمة من مقرضي الحكومة! وبكل الأحوال فإن معدلات الفائدة على ودائع القطع الأجنبي اليوم، تحدد داخل المصارف، وليس بقرار حكومي، وتصل إلى 2% ما يعني أنه من المتوقع أن يرتفع معدل الفائدة عن هذا الحد.
هذه الأوراق المالية المضمونة حكومياً، ستكون قابلة للتداول، في سوق الأوراق المالية، وقابلة أيضاً للخصم، وإعادة الشراء، وجميعها إجراءات يكون الغرض منها تحقيق أرباح من فوارق تقدير قيمة هذه الأوراق ومن توقع ارتفاعها... ولكي يحقق حائزو ومتداولو هذه الأوراق ربحاً أعلى، يفترض أن يرتفع سعر صرف الدولار، أو أن يرتفع سعر الفائدة عليها. والخسارة للحكومة والمال العام بالحالتين.
إن نجاح هذه الآلية وعدم تحولها إلى فشل مالي، له خط واحد رفيع فقط: أن تؤمن الحكومة قطعاً أجنبياً، توظفه في استثماراتها الإنتاجية العامة، وفي توسيع إيرادات المال العام الإنتاجية الفعلية، وتوسيع قاعدة الإنتاج المحلي، بالشكل الذي يحمي قيمة الليرة، ويمنع ارتفاع سعر صرف الدولار. أما عدم نجاح هذه الآلية، وأي اختلال فيها فقد يعني الكثير، وخاصة في الظرف المضطرب وغير المستقر للاقتصاد السوري.
فعملياً شهادات الإيداع هي طلب المصرف المركزي للدولار من السوق، وتحفيزه على تجميعه وإيداعه وإقراضه للحكومة، وهو سيعني أيضاً: أن يتحول جزء من النشاط الحكومي إلى الدولار لتستطيع تأمين سداد قروضها لمقرضيها من أطراف السوق. أما تداول هذه الشهادات فهو عملياً تداول للقطع الأجنبي في السوق المالية، وسيكون دافعه زيادة الطلب، ورفع السعر.
إن تطبيق الإجراءين، الأول: المتعلق بإطلاق يد الإقراض، والثاني: المتعلق بشهادات الإيداع، يعني عملياً: أن الحكومة تطلق كتلة الليرة في السوق، وتزيد من الطلب الحكومي على الدولار... وهذان الإجراءان يؤديان مباشرة إلى ارتفاع سعر صرف الدولار، وتراجع قيمة الليرة. ولا يحميها شيء إلا تحول الإقراض إلى إنتاج، وليس إلى مضاربة وارتفاع أسعار... وتحوّل القطع الأجنبي الذي تستدينه الحكومة إلى إنتاج فعلي وقيم مضافة، وليس إلى دَينٍ على المال العام، وعلاقة مختلة بين جهاز الدولة والسوق، حيث الثانية تقرض الأولى، وتتحكم بها.
فما الذي يضمن أن يتنشط الإنتاج الفعلي؟ الضمانة يجب أن تكون في سلوك السياسة الاقتصادية وجهاز الدولة، وهؤلاء عملياً يتحركون وفق ميزان القوى الاقتصادي والسياسي المحلي، وهو اليوم لصالح قوى السوق الكبرى التي تسعى لتبييض أموالها المتسخة بخسائر السوريين خلال سنوات الحرب وقبلها. وتبييض الأموال يعني: قطّاعات الربح المضاربي في العقارات والترف والخدمات، إن قوة هؤلاء تعني ضعف أية سياسة اقتصادية فعالة، وتعني أنه من حقنا التخوف من التغييرات في السياسة النقدية القادمة.