كيف نستفيد من الأزمة؟ د. قدري جميل: الاستفادة من الميزات المطلقة هي الحل
توجهت الزميلة «الاقتصادية» في عددها 394 إلى بعض الباحثين الاقتصاديين بسؤال: كيف نستفيد من الأزمة العالمية للرأسمالية؟ وقدم د. قدري جميل، في إجابته على السؤال، الرأي التالي:
«أرى أنه ما لم يتم التفكير عميقاً بدروس الأزمة وفحواها وسرعتها واتجاهها، فهذه الأزمة لا يمكن أن تكون إلا ضرراً مطلقاً علينا، أما إذا تمت دراستها واستخلاص دروسها، فيمكن حينها تخفيف بعض الأضرار، وتحويل بعضها الآخر إلى فوائد، ويجب أن نكون واعين لإحداثيات الأزمة كاملةً، فعندها سيكون من الطبيعي الاستنتاج أن التعويل على الرساميل الخارجية العربية أو الأجنبية لتوسيع رقعة الاستثمار في الداخل هو ضرب من الوهم وقبض للريح، لأنه عندما لم تكن هناك أزمة وكانت هناك وفرة في الاستثمارات كان قدوم الرساميل الأجنبية يتم بصعوبة بالغة، وفي حال القدرة على استقدامها فكانت تتجه نحو قطاعات محددة زادت مشكلات الاقتصاد الوطني، فتلك الاستثمارات التي كنا نظن أن قدومها سيحل مشكلاتنا أصبحت مشكلة بحد ذاتها، لأنه تبين بالتجربة أنه ليس كل استثمار إيجابياً، فهو يكون سلبياً أو إيجابياً حسب نوعه ومكان تموضعه، فإذا كان الاستثمار مالياً، وجاء لاستثمار الأراضي، فهو لا يزيد في الناتج السلعي، أي في القيمة المضافة، وإنما يزيد في الكتلة النقدية، ما يخل في أحد التناسبات الأساسية في الاقتصاد الوطني (كتلة سلعية تتناسب مع كتلة نقدية)، وبالتالي فإن ضخ كتلة نقدية كبيرة في الاقتصاد دون توظيفها ضمن فترة محددة في الإنتاج المادي، وكانت مخرجاتها لم تتحول إلى ناتج سلعي، فهذا يؤدي إلى وذمة تضخمية يدفع ثمنها الناس خلال سعر المواد الأساسية، لذلك ليس كل استثمار إيجابياً.
...إذا كانت هناك فرص لجذب الرساميل الفائضة عن بلدانها للاستثمار في سورية قبل الأزمة، فهذا لم يعد ممكناً حالياً، فإذا أخذنا بورصات الخليج كمثال، نجد أنها خسرت من قيمتها السوقية في عام 2008 حسب كل سوق من 25 إلى 75%، لذلك فإذا كان هناك من يتوقع ازدياد تدفق الرساميل في ظل الأزمة فلا أعلم على ماذا يستند، وخاصةً أن هذه الرساميل بكتلتها العامة قد انخفضت. وفي كل الأحوال فإن الرساميل حين تتوجه إلى الاستثمار فإنها تكون مدفوعةً بدافع واحد وحيد هو السعي نحو الربح الأعلى، وإذا تمت دعوة أصحاب الرساميل للاستثمار في القطاعات الريعية فسيكون الضرر هو النتيجة، وإذا تمت دعوتهم إلى قطاعات الإنتاج الذي لا تزال نسب الربح فيه غير مرتفعة وغير مضمونة، فإنهم لن يستجيبوا، لكون الفروع الاقتصادية المتخصصة سورية فيها، والتي يمكن أن تعطي ربحاً أكثر من القطاعات الأخرى، هي ذات ميزات نسبية تشارك فيها سورية بلداناً أخرى. وإذا ما استمرت محاولات جذب الرساميل إلى نطاق الاستثمار في الفروع ذات الميزات النسبية، فإن المنافسة الدولية في ذلك ستكون عاليةً جداً، لذلك فنحن أمام حل واحد: البحث عن الفروع ذات الميزات المطلقة التي لا يشارك سورية فيها أحد، وهي فروع كثيرة في سورية، ولكنها لا تلقى الاهتمام الكافي نتيجة السعي نحو تقليد الخارج.
...المطلوب للاستفادة من الأزمة- وخارج الأزمة- هو إجراء مسح علمي ميداني لكل الميزات المطلقة في سورية، وهي كثيرة جداً. وبعد إتمام هذا المسح، يجب التفكير بإنتاجها بشكل منهجي ومخطط سواء أكانت زراعية أم صناعية تخدم الزراعة، وهنا يجب ابتداع تكنولوجيا سورية خاصة لاستثمار هذه الميزات المطلقة لكون هذه التكنولوجيا غير موجودة في الخارج لعدم وجود هذه الميزات المطلقة في غير سورية بالمطلق، ومنها مثلاً؛ نباتات طبية لا تنمو إلا في سورية، وهي معروفة ومطلوبة في الأسواق العالمية. وللأسف، يشتريها مندوبو هذه الأسواق بأسعار رخيصة، في حين لو يتم توسيع زراعتها، (علماً أن قسماً منها هو نباتات طبيعية) ويتم تصنيعها، فهذا يعني احتكار مادة مطلوبة في السوق العالمية.
وهناك أمثلة أخرى على ذلك: غنم العواس، وكذلك بعض أنواع الورود التي لا تنبت لدى البلدان الأخرى، علماً أن الورود النادرة كثيرة في سورية، وإذا تم تصنيع خلاصاتها فهي تمثل أساساً في الصناعات الدوائية والتجميلية، وهي أهم من النفط والقطن لأن ميزاتهما التنافسية نسبية، وليست مطلقة!.. وهناك في هذا المجال المئات من الأنواع والفروع ذات الميزات المطلقة في سورية.
الميزة المطلقة هي الحل
إن الميزة المطلقة هي الحل، فهي عبارة عن ناتج مادي ذي ريع مطلق، وعند إيجاد فروع اقتصادية من هذا النوع الذي يحقق نسب ربح مرتفعة، يمكن لسورية انتقاء ما يحلو لها من رساميل تسعى للاستثمار في اقتصادها، والتي ستستجدي الدخول للعمل في البلد. ولذلك يجب التعامل مع الأزمة بهذا المنطق، لأنه سيمنح سورية قوة دفع انفجارية هائلة إلى الأمام، أما إذا تعاملنا معها كما يتعامل معها الجميع، فإنها ستصيبنا بآثارها وشظاياها كما تصيب الجميع!.. إذاً الحل هو في البحث عن المزايا المطلقة في الاقتصاد السوري وتحفيز الاستثمار باتجاهها بعد إعداد التكنولوجيا الخاصة بإنتاجها.
هل ستستثمر الأزمة فعلياً؟!
يستمر الحديث في الحكومة عن الاستثمار والاستثمار والاستثمار.. لكن دون تحديد وجهته ونوعيته، وكأن أي رأسمال يفد البلد سينعش اقتصادها، واليوم، وأمام ما تدعو إليه الأزمة من التركيز على القطاعات الاقتصادية الحقيقية وتقليص الاهتمام بالقطاعات الافتراضية أو الوهمية، كما وصفها السيد الرئيس.. يبقى السؤال مطروحاً: أي استثمار نريد فعلاً في سورية؟ هل هو الاستثمار في القطاعات الريعية ذات الفائدة النقدية فقط، أم الاستثمار في القطاعات المنتجة ذات القيمة المضافة الذي «سيمنح سورية قوة دفع انفجارية هائلة إلى الأمام»؟! بالطبع، إن معيار الفائدة التي يمكن أن يحققها الاستثمار على صعيد الاقتصاد الكلي في سورية سيكون هو الحكم فيما سيشهده الاقتصاد الوطني مستقبلاً، فهل ستسعى الجهات التنفيذية فعلياً إلى استثمار فرص الأزمة العالمية بالشكل الأمثل بما يفيد الوطن والمواطن، أم إن الكلام لن يلقى صداه اللازم، وسيسبقنا الآخرون كما هي الحال دائماً؟!.. أرجو عكس ذلك.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 408