هكذا تكلم «سو»
جاء مع عدد من الخبراء مرافقاً لدفعة الباصات الصينية التي استوردتها شركة النقل الداخلي، (مو عالبيعة) كما راح يتندر حينها العاملون والسائقون في الشركة، ولكن لكي يساعد في الإشراف على حسن سير عمليات صيانة وإصلاح هذه الباصات التي ستجري لها في فترة قصيرة محددة في العقد بين الجانبين..
إنه الخبير الصيني «سو»،
وهو مهندس ميكانيك صغير في السن، وفي هيئته بعض البلاهة الظاهرية، ولا يكف عن الابتسام حتى وهو يتلقى شتائم «البناديق» الذين يمررونها وهم يظهرون احتراماً مزيفاً، وجفناه مشدودان بمطاطة فلا يكاد يظهر من بؤبؤي عينيه سوى نواتيهما، وطوله لا يتجاوز قامة أية فتاة متوسطة الطول في بلدنا.. ويبدو للوهلة الأولى أنه من أولئك الكومبارس الذين يتلقون اللكمات والرفسات في أفلام «جاكي شان» أو «بروس لي» مقابل بضعة قروش.
ولكنه مع كل هذه الملامح والصفات المخادعة، سرعان ما أثبت فأدهش، أنه فهيم و«حربوق»، وبارع في اختصاصه وفي غير اختصاصه، وحاضر البديهة، وقد استطاع في وقت قياسي أن يتقن من العربية (الشامية) ما يمكّنه من تدبّر أموره، وإسكات «البناديق» الكثر من حوله، لا، بل والتندّر على بعض ما يراه ويسمعه من طرائف ومفارقات لا تحدث غالباً إلا في بلدنا (النامي).. وما أكثرها.
فـ«سو» هذا، وبعد أن قرأ في عيون الجميع احتراماً متأخراً لشخصه وإمكاناته، راح يغمز ويلمز، ويسخر بطريقة صينية خجولة ووقورة من مظاهر عدة تحدث في بلاد الأبجدية الأولى والسفينة الأولى والمعزوفة الأولى والمدينة الزراعية الأولى والحياكة الأولى والسيف الأول.. و.. و..
تعجّب «سو» من كون معظم الناس في العاصمة يرمون القمامة في الشارع وسرير النهر شبه الجاف، والحاويات بأنواعها المختلفة تحيط بهم من كل جانب.. في الزوايا، وعلى الأعمدة، وأمام المطاعم... وظل حتى لحظة إيابه إلى بلده يتساءل: «كيف يستطيع الموظفون أن يعيشوا برواتبهم الضئيلة التي يتقاضونها؟!»..
ضحك حتى كاد يغشى عليه من مفارقة وقوف السيارات، وخاصة السوداء، على الأرصفة ومسير الناس على أسفلت الشوارع.
أذهله مشهد البيوت العشوائية التي تتسلق جبل قاسيون وتقف على رؤوس أصابعها بدءاً من المهاجرين وصولاً إلى عش الورور.. والبيوت الكثيرة جداً، والواسعة جداً، الخالية من السكان في قلب المدينة.. وصلاة الناس على الأرصفة أمام أبواب المساجد الكبيرة ظهر أيام الجمعة.
استغرب بشدة التزاحم الكبير على الأفران وغلاء الخبز، لعلمه، وهو الصيني، أن سورية تنتج القمح الجيد وبكميات كبيرة.. ولم يفهم على وجه الدقة أسباب وجود كميات كبيرة من الطعام وبقاياه، وعلى رأسها الخبز، مرمية في الشوارع وفي تلال القمامة على أطراف المدينة.
أحزنته الرشوة المتفشية في المؤسسات والطرقات، وسرعة دخول السوريين في اشتباكات عنيفة بالأيدي وما تيسر من أدوات، (البخشيش) الإجباري الذي يأخذه عنوة سائقو سيارات الأجرة، وتردّي أخلاق أغلب الجالسين خلف مقود وتحوّلهم إلى شخص آخر أكثر طيبة وحلماً حين يترجّلون، والغش في مواصفات البضائع، والإغلاق المبكر للأسواق، وارتداء معظم النساء للكثير من الملابس رغم الحرّ الشديد، والأعداد الهائلة للمتسولين والمشردين والعاطلين عن العمل والبائعين المتجولين..
تفاجأ، وكاد لا يصدق أن المساحات الأسمنتية الواسعة القابعة شرق المدينة كانت قبل بضع سنين غوطة غنّاء وارفة الخضرة والظلال، وصرخ فاقداً الكثير من بلاهته وخجله ووقاره: «من قطع الأشجار؟ من ارتكب هذه الجريمة؟».
عاد «سو» مؤخراً إلى بلاده المتنوعة الأعراق والثقافات والمناخ، والتي راحت تغزو العالم وتهيمن على أسواقه.. لكنه ما انفك يردد في الفترة القصيرة التي سبقت مغادرته دمشق: «سورية بلد عجيب، وشعبها يجعلك تشعر بالارتباك»..
ملاحظة: «البناديق» ذاتهم في شركة النقل الداخلي يزعمون اليوم أن «سو» بعد عودته إلى بلده، راح يتصرف بصورة غير سوية، وأن الصينيين لم يعودوا مرتاحين لـوجوده بينهم بعد أن أفسد السوريون أخلاقه.. وثمة شائعة مفادها أنه قد يطلب اللجوء الأخلاقي والسلوكي لسورية..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 409